بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين نطقت الحجارة علمًا: العمارة الإسلامية والتعليم التقليدي في أوزبكستان

الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

في الشرق، حين تُشيَّد مدرسة، لا تُبنى جدران فقط، بل تُسكب أرواح. وحين تُكتب الكلمة فوق المحراب، لا تُنقش زخرفة، بل يُغرس ضوء في الوجدان.هكذا كانت أوزبكستان منذ سمرقند وحتى خيوة ليست بلاد علم فحسب بل بلاد حجارة ناطقة حيث نُقشت العلوم على الجدران، وزُرعت المعرفة في زوايا المساجدوالمدارس في سمرقند، يقف مبنى مدرسة أولوغ بيك (بُنيت عام 1417م) كأول ما يترجم فكرة التعليم المضمّن في الجدران كانت المدرسة جزءًا من مجمع ريجستان التاريخي، وزُين مدخلها بآية: “السعي في طلب العلم عبادة” أولوغ بيك، حفيد تيمور، لم يكن مجرد أمير بل فلكي وعالم رياضيات. درّس بنفسه داخل المدرسة ويُروى أنه كان يقرأ على طلابه “الزيج الإلكاني” أحد أعظم كتب الفلك.

الزخارف التي تملأ الواجهات لم تكن ترفًا، بل كانت رموزًا رياضية وفلكية، تقود الطالب إلى التفكير في ترتيب الكون وارتباطه بالخالق. أما أهم ما يميز العمارة التعليمية الأوزبكية هو ذلك التوازن بين الجمال والوظيفة فإذا القباب الزرقاء لم تكن للزينة فقط بل عكست ضوء الشمس بشكل يبعث السكينة داخل القاعات. وتأتي البوابات العالية كرمز إلى علو شأن الداخل طالبًا للعلم، وتشير ضمنًا إلى رفعته في الدنيا والآخرة.

أما في مدينة خيوة، مدرسة “محمد أمين خان” بُنيت عام 1855، وهي من آخر المدارس الكبرى قبل نهاية العصر التقليدي فهناك كان يتعلم الطلاب علوم الدين واللغة والمنطق والفلك في آنٍ واحد.

لم تكن المدارس مغلقة على النخبة بل مفتوحة مع سكن داخلي مجاني وطعام مقدم من الأوقاف وتجد في بخارى أكثر من 350 مدرسة تاريخية حيث كانت الفكرة أن المسجد يعلّم والمدرسة تُصلي والشارع يُؤدب وكانت كل الحواضر ترتبط بمبدأ التعليم هو عمل عبادي يومي منذ استقلال أوزبكستان عام 1991 بدأت جهود ترميم المعمار الإسلامي خاصة في ريجستان وخيوة وبخارى.

الكثير من المدارس القديمة تم تحويلها إلى مراكز ثقافية ومتاحف تعليمية، تُشرح فيها مناهج التعليم القديم للزوار والسياح. هناك أيضًا اتجاه لإحياء بعض نماذج التعليم التقليدي عبر المدارس الإسلامية الحديثة، ولكن بتقنيات معاصرة.

أوزبكستان تقدم للعالم نموذجًا نادرًا فترى أن المباني لا تحتضن الطلبة فقط بل تُربيهم أيضًا. كل باب، كل زخرفة، كل محراب… لم يكن تفصيلًا معماريًا عابرًا، بل رسالة تربوية صامتة، تقرأها العيون كل صباح وتُعيد تشكيل شخصية الطالب من ريجستان إلى خيوة سارت الحضارة على أقدام الطلاب وارتفعت المآذن لا لتصدح بالأذان فقط بل لتقول للعالم إن العلم عبادة وإن الحجارة يمكن أن تنطق إذا ما نُحتت بإيمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى