بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

دبلوماسية الفراغ والثوب الدبلوماسي الجديد والاحتواء المرن..

الدكتور عدنان بن أحمد الأنصاري

دبلوماسي وسفير سلطنة عُمان لدى دولة الكويت سابقاً

 

 

‏⁧‫إن‬⁩ السياسة لا تصنعها النوايا الطيبة بل القدرة على “توظيف اللحظة لخلق حقائق جديدة”، وهذه إحدى اللحظات التي إن ضاعت، قد لا تعود.

‏⁧‫في‬⁩ توقيت هش، وحقل ألغام جيوسياسي، تتحرك فرنسا لا حبًا بالفلسطينيين ولا كرهًا للإسرائيليين، بل لأن ميزان التاريخ يسمح لها اليوم بطرح أوراقها.
‏وبرغم الشكوك، فإن أي اعتراف أوروبي رسمي بفلسطين، خصوصًا من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، هو خطوة متقدمة في إعادة تدويل الصراع، وفتح طريق جديد أمام ما ظنه البعض طريقًا مسدودًا.

‏الاختبار ليس لفرنسا، بل للفلسطينيين والعرب : هل سيواكبون اللحظة أم يضيعونها كما ضاعت قبلها لحظات كثيرة؟
في‬⁩ لحظة تاريخية مشبعة بالجمود، وعجز الهيئات الدولية عن فرض مسار عادل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي حيث تسعى فرنسا إلى إحداث خرق استراتيجي يتمثّل في إعلان نيتها للاعتراف بدولة فلسطين خلال أعمال الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر.

هذه الخطوة لا تنفصل عن السياقات المتراكمة في المنطقة، ولا عن رغبة باريس القديمة في لعب دور الوسيط الثقيل في العالم العربي خصوصًا بعد تراجع مكانتها لصالح المحور الأميركي – الألماني – الإسرائيلي، وغيابها عن ملفات سوريا ولبنان والخليج.
‏ومن هنا، فإن التوقيت الفرنسي ليس بريئًا، بل هو توقيت محسوب بدقة، يهدف إلى :
‏• كسر احتكار واشنطن للملف.
‏• إحراج الحكومة الإسرائيلية اليمينية.
‏• تنشيط التحالفات الأوروبية لصالح الموقف الفلسطيني.

‏⁧‫يمكن‬⁩ القول إن فرنسا تمارس “دبلوماسية الفراغ”، أي استغلال الفراغ الأميركي والتخلي العربي، لملء المشهد بمبادرة تضرب في عمق الشرعية وتُحرّك مياهاً راكدة.

‏⁧‫الرئيس‬⁩ إيمانويل ماكرون لم يطرح الاعتراف كبيان رمزي فحسب، بل كمبادرة متعددة الأبعاد :
‏1. اعتراف رسمي بدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، دون انتظار نهاية التفاوض أو القبول الإسرائيلي، في كسرٍ لمعادلة “الاعتراف مقابل الحل النهائي”.
‏2. الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في باريس نهاية 2025، كبديل عن فشل مسارات أوسلو وأنابوليس، مع تركيز على تدويل الحل لا إبقائه في يد واشنطن.
‏3. مبادرة دعم مالي وسياسي لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، خاصة في الضفة، كأداة لتعزيز السلطة وتقليص نفوذ حماس، ضمن صفقة متوازنة مشروطة بمكافحة ما تسميه فرنسا بـ”التطرف”.
‏4. مقترح لتجميد الاستيطان مقابل حوافز أوروبية لإسرائيل، وهي صيغة تعيد إحياء مبدأ “الأرض مقابل السلام”، ولكن بثوب دبلوماسي جديد.
‏⁧‫هذه‬⁩ الحزمة تعكس”الاحتواء المرن”، حيث تسعى باريس لضبط حدود التوتر دون المواجهة المباشرة، وفتح باب أمام إعادة هيكلة العملية السياسية بطريقة لا تهمّش أحدًا، لكنها تفرض مرجعية دولية جديدة.

‏⁧‫فرنسا‬⁩ لا تتحرك فقط بدافع أخلاقي أو تضامن إنساني، بل من منطلقات جيوسياسية دقيقة :
‏• استعادة دورها التاريخي في الشرق الأوسط الذي تراجع منذ الحرب السورية وتدخلات واشنطن في الخليج.
‏• كسر انفراد ألمانيا وبريطانيا بصياغة موقف أوروبا من الصراع، خاصة بعد أن أصبحت برلين تميل أكثر لمواقف إسرائيل الأمنية.
‏• اختراق جدار “الصفقات الإبراهيمية” التي همّشت القضية الفلسطينية لصالح مشاريع التطبيع الاقتصادي.

‏ماكرون يدرك أن اللحظة ليست مثالية، لكنها مشحونة بما يكفي ليصنع منها نقطة تحول استراتيجية من دون كلفة ميدانية عالية، وهذا فن السياسة؛ التأثير بأقل قدر من الاشتباك المباشر.

‏⁧‫في‬⁩ حال تم الاعتراف الفرنسي فعلًا، ستُفتح عدة مسارات متشابكة :
‏• على المستوى الدولي، سيحظى القرار بزخم قوي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة من دول الجنوب العالمي وأمريكا اللاتينية والدول الإسلامية. وستسعى باريس إلى حشد أوروبي خلفها، خصوصًا من دول مثل إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا.
‏• في مواجهة الولايات المتحدة، من المتوقع أن تتخذ واشنطن موقفًا متحفظًا أو معارضًا مما يخلق توترًا مؤقتًا في العلاقات الأطلسية، ولكن دون انفجار سياسي.
‏• إسرائيل سترد بشراسة، سياسيًا وإعلاميًا، وستعتبر الخطوة مساسًا بسيادتها، وقد تشنّ هجمات دبلوماسية مضادة أو تزيد من وتيرة الاستيطان كإجراء انتقامي.
‏• السلطة الفلسطينية ستنتشي بالانتصار الرمزي، ولكنها ستكون مطالبة بترجمة هذا الاعتراف إلى مكاسب داخلية وميدانية، وهو ما قد يفشل إن لم يُرافق بإصلاح داخلي ووحدة وطنية.
‏• الدول العربية، خصوصًا الخليجية، ستُحرج، خاصة إن التزمت الصمت أو خففت دعمها خوفًا على مصالحها مع تل أبيب، مما يبرز الانقسام العربي بوضوح في لحظة إجماع دولي نادر.
هذه‬⁩ الخطوة تُشكّل فرصة استراتيجية نادرة تتطلب من الجانب الفلسطيني إعلان تبنٍّ فوري وعلني للمبادرة الفرنسية.
‏• تفعيل الحراك الدبلوماسي لتوسيع دائرة الدول المؤيدة داخل الأمم المتحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى