
حارة الرمل بولاية عبري (5): “الحارة وسوق عبري القديم: علاقة حياة وهوية”
الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مؤلف سلسلة كتاب مختارات من البروتوكول
بعد أن تجوّلنا في مقالات سابقة بين أروقة حارة الرمل، مستعرضين ملامحها القديمة، وذكرياتها الراسخة في وجداننا ووجدان أهلها، نعود اليوم لنُسلّط الضوء على جانب آخر لا يقل أهمية؛ إنه سوق عبري القديم، ذلك المعلم الاقتصادي والاجتماعي الذي كان شريانًا نابضًا في حياة أبناء الحارة وغيرها من الحارات.
في هذا المقال، نفتح نافذة جديدة على العلاقة الوثيقة التي جمعت بين الحارة والسوق، تلك العلاقة التي لم تكن مجرد مسافة تُقطع مشيًا على الأقدام، بل كانت مسارًا يوميًا تنبض فيه قيم التعاون، وملامح البساطة، وروح المكان.
في كل صباح، كانت الحارة القديمة تشجع أبنائها للنشاط والحركة وطلب العلم والرزق ويذهب اغلبهم للبيع والشراء الى سوق عبري القديم والذي يعتبر من الأسواق القديمة، ويتعلمون أصول التعامل مع الناس، واحترام الكبير، وصدق البيع، وفن الكلمة الطيبة.
ومن التعابير الشائعة آنذاك، حين يُسأل أحد أبناء الحارة عن شخص لم يُرَه في الجوار، فيُرد عليه ببساطة: “فلان هابط السوق”، (وهي عبارة دارجة وتعني في المعنى الحرفي المكاني أي هبط من الأعلى الى الأسفل ويقصد هنا بان الشخص توجّه إلى السوق). لم تكن هذه الجملة بحاجة إلى شرح أو توضيح، فالجميع يدرك أن السوق هو القلب النابض للحياة اليومية لأبناء الحارة وغيرها من الحارات في الولاية، والوجهة الطبيعية لمن أراد شراء أو بيع الحاجات، أو لقاء المعارف، أو سماع الأخبار وتناقلها. هكذا كانت كلمة “هابط” تختزل مشهداً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً مألوفاً في حياة الناس.
كان سوق عبري هو الرئة الاقتصادية والاجتماعية لأبناء حارة الرمل وغيرها من الحارات، إذ يمثّل أقرب نقطة تجمع تجاري لهم، وملتقى يومي لا يُفوّت. يتوجه إليه الأهالي صباحًا مشيًا على الأقدام في وقت لا تتوفر فيه السيارات بكثرة في تلك الفترة أو ممتطين الدواب، حاملين ما يحتاجونه من نقود أو بضائع للمقايضة. في السوق، يشترون حاجياتهم من التمر والدقيق والقهوة والتوابل والحمضيات، ويتبادلون الأخبار والقصص مع المعارف والباعة. لم يكن السوق مجرد مكان للشراء، بل كان منبرًا اجتماعيًا تُنسج فيه العلاقات، وتُعقد فيه المواعيد والاتفاقيات والعقود، وتُروى فيه حكايات الزمن. وسجلًا يوميًا لحياتها الاقتصادية والاجتماعية. من خلاله تُعرف الحارة بنشاطها، وعلاقاتها، ومكانتها، ويتعرف الناس على بعضهم البعض، في حركة دائبة تحكمها قيم الاحترام والتوازن.
كانت بعض من اسر الحارة تُنتج العديد من المنتجات مثل الحلوى العمانية والسمن، والسعفيات ( القفير والمخرافة والحصر) وبعض المشغولات اليدوية والبخور وغيرها من المنتجات، وتوجهها نحو السوق؛ السوق الذي ينتظرها كمن ينتظر النبض القادم من القلب. وكان أهل السوق يعرفون كل منتج من أي بيت خرج، ويُقاس ميزان الصدق من سمعة الحارة.
ذاكرة الطريق: من الحارة مرورا بصباح الشناديد إلى السوق
من الذكريات المتجذرة في وجدان أبناء حارة الرمل، ذاك المسار الترابي القديم الذي كانوا يسلكونه يوميًا من الحارة إلى سوق عبري القديم يبدأ الطريق من الحارة، مارًّا بحارة “قلة صقر” ثم حارة “الجمار” ثم الى صباح الشناديد، وهو المدخل الجنوبي لحارة الشناديد، ويُمثّل أحد المداخل الرئيسية والرمزية لسوق عبري القديم وواحة عبري القديمة ثم يتفرع ذلك الشارع يمينا الى “حارة ورى” ويسارا الى حارة الشناديد ثم إلى قلب السوق. وترى الشارع مكتظًا بخطوات المارة وحركة الدواب، في مشهدٍ يبعث على الحياة. لم يكن هذا مجرد دربٍ للوصول، بل كان ممشى يوميًا محاطا بالجدران الطينية وبساتين النخيل والفلج الذي يروي تلك الضواحي وتختلط فيه الخطى بالآمال، وتنسج عليه الحكايات.
الجدير بالذكر بأن حارة الشناديد هي إحدى الحارات القديمة المعروفة في ولاية عبري ، وتُعد من الحارات العريقة التي ارتبطت بتاريخ المدينة العريق جنبًا إلى جنب مع حارات مثل حارة الرمل وحارة الجامع وحارة السوق وغيرها.
رغم تعدد الطرق المؤدية إلى السوق، ظل هذا الطريق هو الأقرب والأسهل لأبناء الحارة، يسلكونه مشيًا على الأقدام، أو على ظهور الدواب، برفقة القوافل المحمّلة بشتى أنواع السلع، حتى الأسماك المجففة والمملحة كانت تصل عبره. في كل صباح، تمضي الخطى بثبات وإصرار، يسبقها صوت التحية والسلام يتردد بين المارين وأهل الحارات المجاورة. وعلى جانبي الطريق، كانت تُغرس في النفوس قيم التواصل والتعاون؛ فالكبار يصحبون الصغار، والغرباء يستدلّون على السوق من آثار الأقدام المتجهة نحو الرزق، في مشهد يعكس البساطة وصدق النية في طلب الكسب الحلال.
كان من المألوف أن يُلقي بعض من أبناء الحارة التحية على أقاربهم وأرحامهم الذين يسكنون على امتداد هذا الطريق، في لحظات تختلط فيها صلة الرحم بروتين الحياة اليومية. كانت التحيات الصباحية، وتبادل الدعوات بالبركة في الرزق، من الطقوس التي لا يغيب عنها أحد، مما يعكس دفء العلاقات وعمق الروابط الاجتماعية بين الحارات المتجاورة.
العودة من السوق: مشهد لا يُنسى
ومن أجمل الصور التي ما زالت عالقة في الذاكرة، ذلك المشهد اليومي عند عودة الناس من السوق، وقد أثقلوا رؤوسهم وأكتافهم بما اشتروه من حاجات وبضائع. تراهم يسيرون في جماعات صغيرة، كبارًا وصغارًا، يعلو وجوههم الرضا، وتغمرهم مشاعر السرور، رغم تعب الطريق وحرارة الشمس وبعد المسافة أحيانًا.
يحمل البعض ما اشتراه على رأسه في توازنٍ مدهش، بينما يفضّل آخرون حمله على الأكتاف أو في السلال المصنوعة من سعف النخيل (القفران) . وتسمع الأحاديث تتناثر في الطريق، عن الأسعار، وعن تفاصيل يومهم، في مشهد يعكس بساطة الحياة، وحميمية التواصل، وصدق الرغبة في العيش الكريم.
السوق… إذاعة الناس اليومية
لم يكن سوق عبري القديم مجرد مكان للبيع والشراء، بل كان منصة إعلامية شعبية، وملتقى لنقل الأخبار والمستجدات. ففي غياب وسائل الاتصال الحديثة، كان السوق يُمثّل مصدرًا مهمًا لمعرفة ما يجري في الولاية والولايات المجاورة، بل وأحيانًا أخبار البلاد والسلطنة والعالم.
يتناقل الناس الأخبار شفهيًا: من سافر، ومن عاد، من تزوج، من توفي، من رُزق بمولود، أو حتى عن تقلبات الأسعار وتوفر السلع. وكان بعض الباعة والرواد يُعرفون بأنهم “رواة الأخبار”، يستمع الناس إليهم بلهفة، ويثقون في ما ينقلونه، ليعود كل واحد إلى حارته ناقلًا ما سمعه، في دوامة اجتماعية تعكس حيوية المكان وتفاعله مع الزمان.
مع تبدّل أنماط الحياة وتراجع حضور الأسواق القديمة، بدأ بريق العلاقة الوثيقة بين الحارة والسوق يخبو شيئًا فشيئًا. ومع ذلك، لا تزال الذاكرة الجمعية لأهالي عبري، ولا سيّما أبناء حارة الرمل – محور حديثنا – تحتفظ بصور حيّة لتلك الأيام؛ حين كان السوق مرآة تعكس نبض الحارة، وكانت الحارة قلبًا دافئًا يخفق بحياة السوق.
وعلى الخير نلتقي، وبالوفاء نرتقي …