بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

كوب من الشاي.. قصة واقعية تختصرعراقة وطن وأسلوب حياة !

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب وخبير بروتوكول – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم

 

في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتقل فيه مساحات البساطة والدفء الإنساني، تبقى بعض المواقف الصغيرة أكثر قدرة على اختراق القلوب من أعظم الإنجازات المادية. وفي خريف صلالة هذا العام، كان هناك مشهد بسيط في ظاهره، لكنه عميق في معناه، يُعيد إلى الأذهان صورة الضيافة العمانية التي تضرب جذورها في عمق التاريخ. وليس هذا الموقف الأول من نوعه كما نعلم، فقد شهدنا العديد من المواقف تجسد كرم العمانيين وطيب معشرهم، إلا أن هذا المشهد وقع مؤخرًا، فبقي حاضرًا في الذاكرة وقريبًا من الوجدان وكان لزاما علينا ان نوثقه للقارئ الكريم في هذه السطور المتواضعة.

القصة بدأت من خلال موقف تم توثيقه من قبل أحد الاخوة الكرام في مقطع متداول عبر منصات التواصل الاجتماعي. حينما كانت إحدى الأسر العمانية تفترش الأرض في أحد المواقع الجميلة بمحافظة ظفار، مستمتعين بأجواء الخريف البديعة، وما تحمله من نسيم عليل ورذاذ متقطع. وفي الجوار، كانت توجد أسرة عربية، ليخطر ببال بعض أفرادها فكرة رهان ودي: أن يذهب أحدهم إلى تلك الأسرة العمانية ويطلب منهم كوبًا من الشاي. انقسمت التوقعات لردود فعل تلك الأسرة العمانية بين من قال إنهم سيعتذرون، ومن ظن أنهم سيتحججون بأي عذر لعدم تقديمه، ومنهم من قال بأن الأسرة ستقدم كوب الشاي بدون شك.

لكن ما حدث قلب جميع التوقعات والموازين رأسًا على عقب، وأثبت أن الكرم الأصيل لا يعرف التردد. ذهب الشاب، فاستقبله شباب العائلة العمانية بابتسامة ودودة، ولم يكتفوا بإعطائه كوبًا من الشاي، بل عاد محملاً بأكواب متعددة ومعه دلة الشاي كاملة، وكأنهم يرسلون رسالة صامتة تقول: “الضيف ليس طالبًا، بل صاحب حق”. قد يكون هذا الموقف من المواقف الطبيعية الا ان هذه اللحظة البسيطة تختصر ثقافة عريقة وأسلوب حياة، وليست مجرد رد فعل عابر. فالكرم في عُمان ليس طارئًا أو موسميًا، بل هو ممارسة يومية متجذرة في الوجدان الشعبي، تمارس بلا تكلف أو انتظار للمقابل.

الضيافة العمانية… أكثر من عادة

منذ قرون، شكّل الموقع الجغرافي لعُمان نقطة تلاقٍ للحضارات والتجار والرحالة، وجعل من أهلها أكثر انفتاحًا على الغير، وأكثر قدرة على جعل الضيف يشعر وكأنه بين أهله. هذا الإرث الثقافي حوّل الضيافة من مجرد واجب اجتماعي إلى قيمة أخلاقية راسخة. في البروتوكول التقليدي العماني، لا يذهب الضيف خالي اليدين من كرم مضيفه، مهما كانت الظروف. و”دلة القهوة” وصحن التمر أو “إبريق الشاي” ليست مجرد أوعية وضعت بها الشراب والطعام، بل رمز ترحيب ورسالة انفتاح، تُقدّم قبل السؤال عن السبب، وقبل الخوض في أي حديث.

البروتوكول الفطري في التعامل مع الضيف

رغم أن كلمة “بروتوكول” ترتبط في أذهان الكثيرين بالمراسم الرسمية، إلا أن لها في الحياة اليومية بعدًا إنسانيًا، خاصة في الثقافة العمانية. فهناك خطوات غير مكتوبة لكنها متفق عليها ضمنيًا:
·      استقبال الضيف بابتسامة ودية تعكس الاحترام وتكسر الحواجز.
·      تقديم الضيافة فورًا، سواء كانت قهوة أو شايًا أو طعامًا، دون سؤال الضيف عما يريد.
·      المبالغة الإيجابية في الكرم، بحيث يتلقى الضيف أكثر مما طلب أو توقع.
·      التأكيد على أن الضيف مرحب به في أي وقت، عبر كلمات ودودة أو دعوة متكررة.
·      ما فعله أفراد الأسرة العمانية في هذا الموقف لم يكن استعراضًا للكرم، بل استجابة تلقائية لما تربوا عليه، وهو ما جعل قصة المقطع تنتشر وتلقى إعجابًا واسعًا.

رسائل مستفادة من الموقف

القيم لا تحتاج إلى مناسبة

العمانيون لم يكونوا في مناسبة رسمية أو في ضيافة مقررة، بل في جلسة عائلية عادية، ومع ذلك مارسوا الضيافة وكأنهم في احتفال كبير.

المبادرة تصنع الفارق

تقديم دلة الشاي كاملة بدلًا من كوب واحد أرسل رسالة مضاعفة من الحفاوة.

الصورة الحقيقية للهوية الوطنية

في زمن تنتشر فيه الصور السلبية بسهولة، فإن مثل هذه المواقف البسيطة تعكس جوهر الهوية العمانية القائمة على الاحترام والكرم.

البعد الإنساني والوطني

هذا الموقف لا يُحسب للأسرة وحدها، بل لعُمان بأكملها، لأنه يعكس ما يتوقعه الزائر أو السائح من هذه الأرض الطيبة. فالضيافة هنا ليست أداة ترويج سياحي، بل نمط حياة يومي، وهذا ما يجعل الأثر أعمق وأبقى.

الخلاصة

قد يرى البعض أن الأمر لا يعدو كونه موقفًا بسيطًا، لكن في الحقيقة، “كوب الشاي” هذا كان أغلى من الذهب، لأنه حمل في طياته معاني التواضع والكرم والاعتزاز بالقيم. في وقت يزداد فيه العالم انغلاقًا وتقل فيه مساحة الإنسانية، تبقى مثل هذه القصص مصدر إلهام ودليلًا على أن الخير ما زال حاضرًا بقوة.

ولعل الرسالة الأهم التي يمكن أن نخرج بها هي أن الضيافة ليست مرتبطة بالمكان أو الزمان، بل بالإنسان الذي يفتح قلبه قبل بيته، ويقدّم روحه قبل ضيافته. وفي عُمان، لا يطلب الضيف إلا ليُعطى أكثر مما ظن، ولا يطرق الباب إلا ليُفتح له على مصراعيه.
وعلى الخير نلتقي وبالكرم نرتقي …

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى