بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

جنود مجهولون !..

رحمة بنت مبارك السلمانية

 

في زوايا الكثير من المؤسسات العامة والخاصة على حدٍ سواء تتكرر مأساة تهميش الموظفين الكادحين لا سيما أصحاب الدرجات الوظيفية الدنيا، الذين تُسند إليهم الأعمال الثقيلة أو يكلفون بمهام إضافية تتجاوز توصيف وظائفهم، ولا يُمنحون فرصة الاعتراض أو حتى الإشارة إلى ما يخرج عن نطاق مسؤولياتهم، رغم بذلهم الجهد الفعلي لإنجاح الأعمال والمشاريع، ودورهم الحقيقي في تنفيذ المهام للخطط المرسومة، إلا أن إنجازاتهم تُسلب منهم وتُنسب إلى غيرهم، إلى أولئك الذين يتربعون المناصب العليا، ويتقنون لغة التباهي والكلام المنمَّق وإطلاق الشعارات الرناّنة، ليتم مكافأتهم وتكريمهم وترقيتهم على سرقة الإنجازات تحت عباءة السلطة، وبينما يتصدر المتملقون ضجيج الاحتفال يجلس صانع الإنجاز الحقيقي بعيداً عن الأنظار، منزوٍ في زاوية يلوك غبنه كصَدع لا ينتبه له أحد.

هذا التهميش ليس مجرد غياب للعدالة والنزاهة فقط، بل هو نزف داخلي يومي وغبن الموظف الصامت، ليصبح كبش فداء تنهشه أنياب المصالح الشخصية، لتتحوّل بيئة العمل إلى بيئة سامة وأرض قاحلة لا تنمو فيها سوى الآفات الضارة، أو تصبح ساحة حرب نفسية ضارية يسودها الانكسار والخذلان، حين يقابل الإخلاص بالتجاهل والإنجاز بالإنكار، لتغدو المكافآت والتكريم حكراً على من يجيدون تلميع صورهم وتمجيد أنفسهم أمام رؤسائهم، لذلك وجب أن ندق ناقوس الخطر للفت الانتباه إلى هذا الأمر قبل أن يستفحل ويتحول إلى كارثة.

كم من موظف بقي بعد ساعات العمل الرسمي ليكمل مهمة طارئة أو عاجلة دون أن يُسجل اسمه في خطاب شكر، أو أن يتقاضى مقابل عمله لساعات إضافية، وكم من مجتهد أُسقط اسمه عمداً من سجلات الأداء المميز أو تكريم المجيدين، وكم من فكرة أبدعها موظف بسيط ليصوغها مديره لاحقاً كأنها من بنات أفكاره، هذا السلوك وإن بدا مألوفاً في بعض المؤسسات لا ينبغي السكوت عنه؛ لأنه يقوّض مبدأ العدالة ويطفئ الحماسة ويزعزع الإخلاص والولاء في بيئة العمل، ويكون ذريعة لبعض السلوكيات السلبية والفساد الإداري الذي بات ينخر بعض المؤسسات.

في الواقع إن المؤسسات التي تتجاهل جنودها الحقيقيين وصُناع الإنجازات فيها، ولا تحتفي بهم تقديراً لجهودهم، وتغض الطرف عن حقوقهم وتستمر في تهميشهم، تساهم تدريجياً في تآكل الروح المهنية وقتل الابداع الحقيقي، وفقدان الشغف ونبذ العطاء وسلب الجهود من أصحابها، لذلك فإن العدالة الوظيفية ليست ترفاً تنظيمياً ولا بنداً مسجلاً على الورق، بل هي ضرورة أخلاقية ومسؤولية إدارية ودعامة أساسية لإرساء الرضا والانتماء والأمان الوظيفي لدى الموظف.

من هنا فإنه ينبغي على الإدارات الواعية والحريصة على تعزيز كفاءة موظفيها وتحفيزهم، أن تُراجع آليات المكافأة والتكريم لديها، وأن تسعى إلى منح كل ذي حق حقه لتحقيق الانصاف، وبث روح المنافسة الشريفة بينهم، وحتى لا تتسبب في خسارة الكفاءات وانسحابها إلى مؤسسات أخرى بحثاً عن العدالة؛ لأن الاحتفاء الحقيقي بالنجاح وتقدير الانجاز يبدأ بالاعتراف بمن صنعه مهما كانت مرتبته أو درجته الوظيفية، ومنحه فرصة للتحليق في سماء المجد، وتطبيق مبدأ المكافأة بناءً على الكفاءة لا على المحسوبية والعلاقات الشخصية، فالإنجاز لا يعرف الألقاب والدرجات والأنساب، بل يُقاس بالعمل الفعلي والجهود الجبارة التي تبرز جودة العمل والكفاءة من خلف الكواليس، لا بعزف الكلمات الرنانة أمام الأضواء والجماهير.

إن أي مؤسسة سواءً كانت عامة أو خاصة تجعل الموارد البشرية ضمن أولى اهتماماتها، لا شك أنها ستحترم حقوق وواجبات الموظفين لديها، وستعمل على خلق بيئة آمنة وصحية تتلاءم مع تطلعاتهم، ومن المنطقي أنها ستكون أكثر التزاماً وحزماً في تطبيق العدالة بين موظفيها، بغض النظر عن درجاتهم أو مناصبهم، وتقمع اللاهثين خلف مصالحهم الشخصية والمتسلقين على أكتاف الآخرين، الأمر الذي سيؤدي إلى استقطاب المزيد من الكفاءات إليها؛ نظراً للعدالة والمصداقية التي تتمتع بها وتميزها عن غيرها من المؤسسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى