
«إسرائيل الكبرى» .. لم تكن زلة لسان..
زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
لا شك أنّ بنيامين نتنياهو رئيس وزراء «إسرائيل» يعاني من داء جنون العظمة. هذه حقيقة مؤكدة، ولكن الواقع على الأرض يشهد بأنه حقق لإسرائيل إنجازات جعلته في مصاف القادة التاريخيين البارزين في تاريخ الكيان الصهيوني؛ إذ بإنجازاته وضع مشروع «إسرائيل الكبرى» على مسار التنفيذ الفعلي، ومن ذلك أنه أضعف المقاومة في كلٍّ من فلسطين ولبنان، ووجّه ضربات موجعة لإيران الحليف الرئيسي للمقاومة في المنطقة، وأخرج سوريا من المعادلة، واستطاع أن يقيم سياجًا أمنيًّا يتكون من دول الجوار؛ لحماية ما يعتبرها دولته. كما أنه نجح في تطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية، وأنشأ دينًا جديدًا اسمه «الدين الإبراهيمي» ما عزز من مكانة إسرائيل إقليميًّا ودوليًّا.
وفي تصوري أنّ مشروع «إسرائيل الكبرى» – في ظلِّ الغياب العربي شبه الكامل عن المشهد – أصبح حقيقة، ولا يحتاج إلى تصريح من نتنياهو، لكن الغريب في الأمر أنّ بعض الدول العربية ثارت ثائرتُها على التصريح الذي أدلى به نتنياهو، وأعرب فيه عن شعوره بأنه يحمل رسالة «تاريخية وروحانية» تتوارثها الأجيال لإقامة إسرائيل الكبرى التي تضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن ولبنان وسوريا ومصر، ولكنها (الدول العربية) صمتت تمامًا عندما كانت إسرائيل تنفذ المشروع في الواقع بهدوء؛ بل إنّ بعض هذه الدول شاركت في هذا المشروع مشاركة فعلية بوقوفها مع إسرائيل؛ لتحقيق هدفها مثل التآمر على العراق وسوريا، ومحاربة المقاومة الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، والإصرار على نزع سلاحه.
حلمُ «إسرائيل الكبرى» الذي كان في الأمس مجرد شعار أصبح اليوم مشروعًا واقعًا، والأخطر أنه يُنفذ في ظلِّ غياب عربي واضح – كما ذكرت -، ومواقف عربية متباينة من القضية الفلسطينية؛ حيث وقف البعض علنًا مع إسرائيل ضد حماس في غزة، وفشلت الدول العربية حتى في إدخال قنينة ماء لأهل القطاع الذين يتضورون جوعًا وعطشًا، وأصبح التطبيع لا يشترط حقوق الفلسطينيين، بل صار طريقًا لتحالفات أمنية واقتصادية تعزز من شرعية إسرائيل في المنطقة، وتُضعف القضية المركزية التي تغنّت بها الأنظمة العربية لعقود، واستمدت منها شرعيتها.
صدرت بيانات عربية كثيرة تندد بتصريح نتنياهو بعضُها كان أقرب إلى «النكتة» مثل بيان الجامعة العربية الذي اعتبر أنّ المشروع «استباحة لسيادة دول عربية، وأوهام مرفوضة تهدِّد الأمن والاستقرار في المنطقة».
والغريب أنّ الجامعة انتبهت الآن – بعد التصريح فقط – أنّ هناك شيئًا اسمه «الأمن القومي العربي»، وأن لإسرائيل «نوايا توسعية وعدوانية لا يمكن القبول بها، أو التسامح معها»، ولم يشر البيان إلى كيفية «عدم التسامح معها».
المثير للسخرية أنّ مشروع «إسرائيل الكبرى» الذي ينفذ واقعيًّا الآن لم يزعج الأنظمة العربية في حد ذاته، لكن ما أزعجها هو التصريح العلني به، وكأنّ المشكلة ليست في تنفيذ المشروع بقدر ما في التصريح به، والمؤلم أكثر أنّ معظم الدول العربية لا تملك اليوم أهدافًا استراتيجية واضحة، ولا رؤى جادة تهتم بالأمن القومي لا حاليًّا ولا مستقبلًا؛ فهي غالبًا ما تُدار بعقلية «ردّ الفعل» لا «الفعل»، وتنتظر الحدث لتتحرك، ولا تحاول منعه قبل وقوعه.
والسؤال الأساسي الذي يجب أن يطرح الآن : هل تستطيع الدول العربية في وضعها الراهن أن تتصدى للمشروع ؟؛ الواقع يقول : إنّ التصدي المباشر يبدو صعبًا؛ لأنّ الأمر يتطلب إرادة سياسية شجاعة، واستعادة ولو جزئية للتنسيق العربي، وتفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي والاقتصادي ولا أقول «العسكري»؛ لأنّ ذلك فوق طاقتها (على ما يبدو). وهل تستطيع مثل هذه الدول – التي تعصف بها الانقسامات – أن تقف موحدة ضد مشروع تقسيمها؟.
مسلسل تنفيذ إسرائيل الكبرى يُنفّذ بهدوء وعلى مراحل، ومع الأسف بأياد عربية، وقد بدأ منذ زيارة الرئيس أنور السادات للقدس، وما أعقبها من اتفاقيات كامب ديفيد، وما لحق ذلك من القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982، وما حصل بعد ذلك للعراق وسوريا، وتقسيم السودان، فكلُّ تلك الأحداث ليست إلا حلقات في مسلسل طويل، لكن العرب يشاهدون حلقة واحدة وينسون إلى أن يستيقظوا ذات يوم ليس ببعيد، ليكتشفوا أنّ المشروع قد تحقق بالكامل، وأكل الأخضر واليابس.
عندما يتكلم الرجل عن خطته ورؤيته لإسرائيل الكبرى بهذه الصراحة فهو يقصد ما يقول؛ فالتجربة في غزة وفي لبنان وسوريا وإيران علّمته أنه مهما فعل فإنه لن يجد من يقف أمامه؛ لذا حُقَّ له أن يهدد الجميع دون مراعاة لأيِّ دولة أو رئيس عربي؛ فهو يعلم أنّ الدول العربية هي أكثر حرصًا منه على القضاء على حماس، ونزع سلاح حزب الله في لبنان؛ لذا يمكن وصف نتنياهو بأنه مخلص لرؤيته الصهيونية، ولمشروعه السياسي الذي يؤمن به؛ لا سيما فكرة «إسرائيل الكبرى»، وهيمنة إسرائيل إقليميًّا؛ فهو لا يخفي ذلك، بل يكرّس كلَّ سياساته لتحقيقه.
الرجلُ سياسيٌّ براغماتي عنيد عمل طوال مسيرته على تعزيز قوة إسرائيل، وتأمين تفوقها العسكري والاقتصادي، وتوسيع نفوذها إقليميًّا ودوليًّا؛ لذا فهو في نظر جزء كبير من الإسرائيليين قائد «تاريخي» أعاد تشكيل السياسة الإسرائيلية، وجعلهم يشعرون بالتفوق، ويرون أنّه حتى قراراته المتطرفة هي دفاعٌ عن «الأمن القومي الإسرائيلي»، ونحن لا بأس أن نحلم ونتخيل : كيف لو كان عند العرب زعامة تنظر إلى «الأمن القومي العربي» بنفس نظرة نتنياهو للأمن القومي الإسرائيلي؟!.
نحن نعيش الآن تحقيق الحلم الإسرائيلي، ونرى كلَّ يوم وكلَّ شهر وكلَّ سنة حلقة من حلقات المسلسل أمامنا، لكن الحكومات العربية مشغولة عن الحلقات، حتى يتناولها المسلسل واحدة تلو أخرى؛ لأنّ الكيان الإسرائيلي لا تخوّفه بياناتُ الشجب والاستنكار، فقد اعتادت على ذلك منذ عام 1948، وليست المشكلة في تفوقها العسكري فقط، ولكن في أنها استطاعت أن تتغلغل إلى عُمق الحكومات العربية، وتسيطر حتى على القرار العربي سيطرة واقعية وفعلية. وأظن أنّ خير مثال لانتصار إسرائيل على العرب هو المثل الشعبي المصري «يا فرعون مين فرعنك؟»، وكان رده : «ما لقيت اللي يردني».