مقالات وآراء

العصر الإسلامي وفن علم الدبلوماسية .. الجزء (2)..

الدكتور/ سعـدون بن حسيـن الحمداني

دبلوماسي سابق – عضو جمعية الصـحفـيّين العمانية

 

العصر الإسلامي وفن علم الدبلوماسية .. الجزء (2)..

 

 

يعتبر العصر الإسلامي وعلى مدى مراحله المتعددة شمس نورت الطريق لكل البشرية من حيث التعاليم السماوية الراقية في تمدن الحياة وانتقالها من العصور الجاهلية السوداء في كل شي الى قمة الحياة المبنية على العدل والمساواة والمحبة والآخاء والانفتاح على العالم بقلب واسع يشع بالخير وحب الجميع، وعند بزوغ رسالة الاسلام الشريفة على يد خاتم المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي بشر بمبادئ الدين الحنيف وأرسى دعائم المدنية العصرية في كل شي ومنها فنون الدبلوماسية. نتطرق اليوم في مقالنا المتواضع هذا عن إتيكيت التفاوض وكيفية الخروج من المفاوضات بأقل الخسائر أن أمكن محققين بذلك الأهداف المتوخاة في المفاوضات سواء المباشرة أو غير المباشرة. كان العصر الاسلامي زاخر بهذا الفن بصورة وهو إتيكيت فن التفاوض مع مختلف شرائح المجتمع لغرض نشر مبادئ الدين الاسلامي الحنيف. يعتبر الرسول الكريم هو المدرس المفاوض الناجح الأول وبلا منازع في أرساء مقومات ونظريات وأسس التفاوض، ومثال ذلك ما حصل في صلح الحديبية كانت هذه بوادر أرساء علم الدبلوماسية في أنشاء الدولة الحديثة المبنية على أسس مقومات التآخي والمحبة والقيادة في تحقيق أهداف بعيدة المنال ولكن بأسلوبه الفذ وطريقته المحنكة أستطاع أن يقنع الجانب الآخر الأقوى منه في العدد والعدة والنفوذ وهذا ما سوف نتطرق اليه لاحقاً.

وحين نتصفح مختلف المدارس الدبلوماسية المختصة في فنون علم الدبلوماسية على مدى الزمن؛ فإننا نجد بأن تاريخ الدبلوماسية يبدأ من القرن السابع عشر أو السادس عشر ومن الغرب حصرا وبأصول ومفاهيم بسيطة بفن الدبلوماسية وأقسامه من البروتوكول والإتيكيت والإعلام الدبلوماسي والمفاوضات وكل ما يتعلق بهذا العلم، إلا أن الحقيقة بأن الإسلام كان هو الأقدم في ذلك، حيث احتوى القرآن الكريم على أرقى المفاهيم في كل تفاصيل الحياة وعلى مدى الدهر سواء في الماضي أو المستقبل ومنها فن علم الدبلوماسية وخاصة في الإتيكيت فن المفاوضات.

حيث درست المدارس الدبلوماسية تأثير التفاوض ونتائجه من ناحية الربح أو الخسارة وتأثيره على نفسية الأشخاص والمجتمعات والدول وسلوكهم؛ كانت نظريات علم النفس والاجتماع  تقوم بدورٍ مهمٍ في وضع استراتيجيات هذا النوع من إتيكيت فن التفاوض؛ إن المفاوض البارع هو الذي يعتمد على التشاور والمشورة مع زملائه قبل التفاوض للوصول إلى أفضل النتائج ، كذلك التخطيط العلمي لحل المشكلات وتحقيق الأهداف وجمع المعلومات ذات العلاقة ، وتحليلها ووضع تصورٍ للحلول الممكنة وتقويمها وتقديم المقترحات التي من شأنها أن تسهم في خلق جو من التعاون.

التَّفاوض الناجح، يعتمد على الإقناع؛ لأنه يعتمد على اللباقة وحسن الاستماع والحوار ، ولأنه مستند على معلومات مهمة فهو يحتاج إلى الفراسة وسرعة البديهة وحسن الكلام والمنطق والإقناع والتَّلاعب بالكلمات، بما يتناسب مع الموقف، والتشاور مع المختصين لإيضاح الموقف من التفاوض. 

والكثيرون منا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التَّفاوض وهي فقرة التشاور، وإذا تحققت المشاورة على وجهها الصحيح قبل التفاوض فإن لها من الآثار الإيجابية ما لا يخفى. وأن من أهداف التفاوض الناجح هو التشاور قبل المباحثات للقضاء على الفردية والدكتاتورية والارتجال والأنانية، وتجنيب الأمة آثار المواقف والقرارات الفردية الكارثية.

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن إتيكيت فن التفاوض والتي تم سردها في آيات القرآن الكريم، فالله – سبحانه وتعالى- يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تُربَّى بالتفاوض وتبادل الآراء والمشورة للوصول إلى أفضل الحلول، والتدرب على خاصية الإقناع والتفاوض.

قال تعالى : “فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا” 233 سورة البقرة ، هذه الآية الكريمة تعطينا درسًا في كيفية التفاوض والوصول إلى أفضل النتائج بعد التشاور والتباحث بالأمر مما كانت المشكلة، وقال تعالى “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ..” (46 سورة الأنفال)، وهذه إحدى نقاط ضعف وسلبيات فريق التفاوض إذ حصل خلاف في الآراء بالوصول إلى هدف المفاوضات وبالتالي فإن النتائج سوف تكون مدمرة وتؤدي إلى الشقاق وضياع الهدف المرجو، وأن هذا الشتات واختلاف الرأي في الفريق الواحد يعطي القوة للطرف الثاني المفاوض المتماسك.

الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم- قدوتنا في فن التفاوض حيث أثبت في كل المواقف مدى براعته في التَّفاوض، ونذكر هنا صلح الحديبية كما وضحنا سابقاُ، قدرته العالية على التَّفاوض مع أهل قريش، وتمكَّن بذكائه من حلِّ الكثير من المشكلات أثناء كتابة التَّفاوض بينهم، لافتة إلى أنَّ مهارات التَّفاوض، التي استخدمها النَّبي، صلى الله عليه وسلم، يمكننا الاستفادة منها وتطبيقها بدلا من الركض خلف المدارس الأجنبية وهي : الصبر/ الاستماع إلى الطرف الآخر بكل احترام وتقدير/ الفراسة وفهم منطق المقابل/ عدم النبش فيما مضى/ البَدْءُ بحسن النية/ تقبل النصيحة من الشركاء / إنتهاز الفرص وأخيرًا التنازل في بعض النقاط  لا يعني الخسارة (مبدأ خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام) وهو أحد بنود فن التفاوض الناجح في المدارس الدبلوماسية، ومثال ذلك التفاوض النبوي في صلح الحديبية حيث أفصح عن دبلوماسية عالية جداً تمتع بها رسولنا الكريم، فعندما جاء “سهيل بن عمرو” للتفاوض على شروط الحديبية لم يتنازل عن هدف التفاوض الاستراتيجي بأداء مناسك العمرة، بل تنازل عن رتوش وصغائر دون أن يُغير الثوابت، فلم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أية مشكلة في كتابة «بسمك اللهم» بدلاً من «بسم الله الرحمن الرحيم»، كما أنه لم يجد أية مشكلة في كتابة «محمد بن عبدالله» بدلاً من «محمد رسول الله»؛ لأن الثوابت باقية، فهو لم يكتب مثلاً بسم آلهة قريش، كما أنَّ هذا التغيير في الخطاب لم يُخسر المسلمين الهدف التفاوضي الأساسي كما ذكرت آنفاً، حيث ركز على جوهر التفاوض وأهدافه الاستراتيجية، وجعل الطرف الآخر يشعر بأنه شريك له وليس نداً.

وفي الختام ، إن التفاوض وفن الإقناع يبدأ من العائلة (من الأب والأم والأولاد) والزوج والزوجة وأغلب مشاكل الطلاق التي تقع كل يوم لهي دليل على عدم وجود فن التفاوض والإقناع بين الاثنين لتصبح أصغر مشكلة هي أكبر مشكلة تهدد وتدمر كيان العائلة ؛ لذلك علينا جميعا الاقتداء بذكاء وأخلاق الرسول الكريم التي هي مستمدة من القرآن الكريم بدلًا من الركض خلف المدارس الأجنبية في تطبيق مبادئ التفاوض والتي هي أصلا مستوحاة من القرآن الكريم وسيرة النبي محمد والصحابة وآل بيته الكرام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى