بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

كالعـطـر فـي الهـواء..

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف وتطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال

 

هناك لحظات تمرّ بنا كنسمةٍ خفيفة لا يلتفت إليها أحد، لكنها في عمقها تحمل سرّ البقاء.

نستيقظ على نورٍ يتسلل من نافذة صغيرة، فنظنه ضوءًا عابرًا، بينما هو في الحقيقة نداء خفي يقول لنا: ما زال في العمر متسع لتجربةٍ أخرى.

كم مرة مررنا أمام كأس ماء بارد دون أن نراه أكثر من سائل شفاف؟ لكنه في لحظة عطشٍ حارق يتحول إلى حياةٍ كاملة تختبئ في قطرة.

هكذا هي التفاصيل التي نحياها؛ تارة نراها أشياءً عابرة لا معنى لها، وتارة نكتشف أنها كنوز صامتة كانت تنتظر أن نصغي إليها.

القلب الذي يتعلّم أن يلتقط المعنى من بين الشقوق، يرى في الكسور نوافذ للضوء.
العالم ليس باردًا كما نتصور، لكنه يتلو علينا قصيدته كل صباح، ونحن وحدنا من يغلق الأذن ويشيح البصر.

حين نُدرّب أرواحنا على الإصغاء، نصبح كمن يملك مفاتيح سحرية تفتح أبواب الطمأنينة، فلا يغوينا صخب المقارنات، ولا يرهقنا جوع الامتلاك. ويصير القليل في أعيننا وفرة، والتعب في خدمتنا للآخرين دفئًا يورّث المحبة، والكلمة الصادقة جسرًا يعبر بنا إلى قلوب من نحب.

وحين يسكن هذا الصفاء في البيوت، تغدو الجدران أحنّ من أذرع، والبيوت أوسع من مدن، ويذوب الجفاء كما يذوب الملح في الماء. تنبض المائدة بمعنى جديد، ليس لأنها ممتلئة، بل لأن من حولها ينظرون إلى بعضهم بنظرة تقدير لا تُشترى.

وفي المجتمع، يكفي أن تومض هذه الشرارة في قلوب قليلة حتى يضيء المشهد كله؛ يصبح الطبيب شاعرًا بالصبر، والمعلم عاشقًا للغرس، والعامل بطلًا صامتًا، والجار ظلًا آمنًا. إنها عدوى النور التي لا تحتاج إعلانًا، بل تنتقل كالعطر في الهواء.

أما مع السماء، فالأمر أعمق من ألفاظ نرددها أو طقوس نؤديها؛ إنه حوار سرّي بين قلبٍ يعترف بالفضل وروحٍ تبحث عن الطمأنينة.

حين نرفع أعيننا، لا نكون نُحصي ما نملك، بل نعلن أننا أدركنا جمال أن نكون في حضرة العطاء المستمر.
عندها يصبح السجود انحناءة امتنان أكثر منه حركة جسد، ويصبح الدعاء انفتاحًا على اللامحدود أكثر منه ترديدًا للصوت.

وحين يطوي العمر أوراقه، يكتشف الإنسان أن الحياة لم تكن تُقاس بعدد الأيام، بل بعدد اللحظات التي عاشها بكامل وعيه.
لحظة فرح صادق قد تُعادل عامًا من الغفلة، ولحظة ألم تحمل في طيّاتها درسًا قد تغني عن مكتبة كاملة من الكتب.
ومن يفهم هذا السر يعيش كمن يعانق الحياة بكل تناقضاتها، فلا يفرّ من قسوتها ولا يبالغ في دلالها، بل يرى في كليهما قصيدة تستحق الإصغاء.

وحين نغلق أعيننا في آخر اليوم، لا يبقى معنا سوى ومضات صغيرة : يد امتدت فأعانت، ابتسامة عبرت فبددت العتمة، قطرة ماء بردت عطشًا، كلمة دافئة كسرت صمتًا ثقيلاً. كلها خيوط خفية تنسج ثوب حياتنا، نرتديه دون أن نلتفت إلى جمال نسيجه.

ومع مرور الوقت نكتشف أن الطريق لم يكن مفروشًا بما جمعناه من ثِقَل، بل بما لمحناه من ومضات.
كأن العمر صندوقٌ يملؤه ما لاحظناه لا ما امتلكناه، وما تأملناه لا ما أسرعنا في تجاوزه.
ومن يدرك ذلك، لا يعود بحاجة إلى أن يطيل النظر في البعيد، يكفيه أن يصغي إلى الهمس الكامن في التفاصيل، لأن فيه تكمن القصيدة التي كُتبت لأجله منذ البدء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى