
التربية بالدفء والحزم لا بالعصف حكاية الريح والشمس: قراءة في البروتوكول التربوي
الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب وخبير بروتوكول – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم والبروتوكول
في مسار التربية والتعليم، يظل السؤال حاضرًا: كيف يمكن للمعلم أن يؤثر في طلابه بأفضل أسلوب؟ هل بالقوة والشدة، أم باللين والرفق؟ للإجابة على هذا السؤال، تستحضر الذاكرة حكاية رمزية بليغة بين الريح والشمس.حيث اجتمعت الريح والشمس يوما في نقاش حول أيهما الأقوى!! فاتفقا على اختبار رجلٍ يسير مرتديًا معطفه. بدأت الريح أولاً، فاشتدت هبوبًا وعصفًا، محاولة أن تقتلع المعطف من على جسده. لكن الرجل كلما اشتدت الريح، ازداد تشبثًا بمعطفه، متشبثًا به كدرع يحميه. وعندما أعيت الريح محاولاتها، تقدمت الشمس بخطوة هادئة، فأرسلت أشعتها الدافئة بلطفٍ وتدرج. شعر الرجل بالراحة والطمأنينة، حتى خلع معطفه بنفسه، دون أن يجبره أحد.
لقد انتصرت الشمس لا بالقوة، بل بالدفء واللين، الحكاية تحمل في طياتها درسًا عميقًا للمعلم. فكثيرًا ما يظن بعض التربويين أن الشدة والصرامة وحدها هي السبيل لضبط الصف وإلزام الطالب بالتعلم. لكن الواقع أن الضغط المفرط يولّد مقاومةً داخلية، كما حدث مع الرجل والريح. على النقيض من ذلك، فإن الكلمة الطيبة، والنظرة المشجعة، والتقدير الصادق، تفتح للطالب أبواب التعلّم بإرادة داخلية لا تحتاج إلى إكراه.
إن البروتوكول التربوي: هو فن التعامل مع الطالب في أصله هو فن تنظيم العلاقات وتحديد الأدوار والحقوق في البيئة التربوية، وإذا طبقناه في الميدان التربوي، فإنه يعني أن يتقن المعلم فن التعامل مع طلابه بأسلوب يراعي التوازن بين الحزم واللين، وبين السلطة والاحترام. فالمعلم وفق بروتوكول التربية ينبغي أن يضبط صفه بكرامة، لا بانتقاص. ويعالج خطأ الطالب بتدرج، فيبدأ بالنصح والتذكير قبل العقاب. ويمنح الفرصة للتعبير، فيشعر الطالب بأن له قيمة ورأيًا مسموعًا.
بهذا المعنى، يتحول الصف الدراسي إلى بيئة راقية يسودها السلوك التربوي الراقي ويقوم على الاحترام المتبادل، حيث يلتزم الطالب بآداب الإصغاء، ويبادل المعلم بالتقدير، كما يلتزم المعلم بآداب مخاطبة تلاميذه، فيحترم إنسانيتهم ويحفز طاقتهم.
شواهد من البيئة العُمانية
في المدارس التقليدية (الكتاتيب) التي عرفتها الحارات العمانية، لم يكن المعلّم مجرد مَن يلقّن القرآن أو الحساب، بل كان أبًا وموجّهًا. ورغم ما ارتبط ببعضهم من حزمٍ وشدة، إلا أن الكثيرين أدركوا أن أسلوب التشجيع والرفق أقدر على ترسيخ القيم. فالمعلم الذي كان يربّت على كتف الطالب عند حفظه للآيات، أو يثني على خطه الجميل أمام زملائه، كان يغرس في داخله اعتزازًا يلازمه طيلة العمر. وهذا في جوهره سلوك تربوي قائم على التقدير لا على التوبيخ.
التربية بالقدوة
كما أن البروتوكول التربوي لا يقتصر على الكلمات، بل يتجلى في السلوك العملي للمعلم. فالمعلم الذي ينصت إلى طلابه كما ينصتون له، والذي يلتزم بدقة المواعيد كما يطالبهم بها، يعطي درسًا غير مباشر في الانضباط والاحترام. وكما أن الشمس لم تُظهر قوتها إلا من خلال دفئها، فإن المعلم يُظهر مكانته وقوة تأثيره من خلال رقيه في التعامل، لا من خلال صوته المرتفع أو عقابه الشديد.
نتائج اللين مع الحزم الواعي والبروتوكول الراقي
حين يمارس المعلم هذا النوع من البروتوكول التربوي، يثمر ذلك في:
• تنمية الثقة بالنفس لدى الطالب، فيشعر أنه شريك في العملية التعليمية.
• تعزيز الانضباط الذاتي، حيث يتعلم الطالب احترام النظام من داخله لا خوفًا من العقوبة.
• ترسيخ القيم الإنسانية، مثل التعاون والاحترام المتبادل، التي تبقى مع الطالب مدى الحياة.
لقد انتصرت الشمس لأنها خاطبت إنسانية الرجل بالدفء، بينما فشلت الريح لأنها حاولت أن تفرض إرادتها بالقوة. وهكذا في التربية: الشدة قد تُنتج انضباطًا لحظيًا، لكنها لا تبني شخصية ناضجة، بينما اللطف واللين – المدعومان بالحزم الواعي وبروتوكول تربوي راقٍ – يتركان أثرًا عميقًا في نفوس الأجيال.
وإذا أردنا أن نغرس في طلابنا حب العلم واحترام النظام، فعلينا أن نتذكر أن التربية ليست صراعًا بين قوة وضعف، بل هي “فن في البروتوكول التربوي والإتيكيت الإنساني”، حيث يحيا الطالب في بيئة تحفظ كرامته، فيثمر ذلك علمًا وسلوكًا وإنسانيةً تليق بمستقبل الوطن.
وعلى الخير نلتقي والمحبة نرتقي …