بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

الدَّيْن بين واجب التضامن ومأساة التهرب..

الدكتور خالد بن عبدالرحيم الزدجالي

 

الدَّيْن : قيمة إيمانية قبل أن يكون التزامًا ماليًا..

منذ القدم ارتبط القرض بالخير والتكافل، وفي الإسلام ارتقى ليصبح عبادة وقربة إلى الله؛ قال تعالى : «مَن ذا الذي يُقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة». وقال ﷺ : «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله».

الدَّيْن إذن ليس التزامًا ماليًا فحسب، بل مسؤولية أخلاقية وروحية تحفظ وحدة المجتمع قبل أن تحسم نزاعاته. وقد حرص السلف على سرعة الوفاء بالديون حتى قبل توزيع الميراث، إدراكًا أن الدَّيْن يمس ذمة الإنسان وعلاقته بربه.

القروض الصغيرة : شرخ في العلاقات..

تكثر حكايات عن أصدقاء أو أقارب أقرضوا مبالغ تحولت إلى جروح صامتة. المدين يتوارى، والدائن يعيش بين الحرج وخوف خسارة العلاقة. ومع صعوبة المطالبة بهذه المبالغ في المحاكم، يختار الكثيرون الصمت على حساب كرامتهم وودهم، وهكذا تتصدع روابط أسرية بسبب دَين لا يتجاوز ثمن هاتف ذكي.

وقد شهدنا على وسائل التواصل أحكامًا تنفيذية ومطاردات لتحصيل الديون، وهي مشاهد غريبة على مجتمع مثل عُمان المعروف بتكافله ومروءته.

الواقع العُماني : بطالة ومديونية..

وإذا كان الماضي يقدّم لنا العِبر، فإن الحاضر في عُمان يكشف بدوره عن تحديات مشابهة في صورة جديدة. فقد أدت البطالة والتسريحات إلى عجز شباب عن سداد القروض البنكية، فلجأوا إلى الأهل والأصدقاء، لينتقل العبء من المؤسسات إلى الأسر. ومع تفاقم الأوضاع ظهرت دعاوى قضائية وأحكام سجن لم يألفها المجتمع.

المشهد يذكّر بأزمات عالمية، مثل أزمة الرهن العقاري عام 2008 حين فقد ملايين الناس منازلهم. لكن الفارق أن حكومات الخارج بنت شبكات حماية اجتماعية، فيما بقي العبء محليًا على دوائر الأقارب والمجتمع الصغير.

بين المجتمع العُماني والغرب : اختلاف في النظرة إلى الدَّيْن..

تختلف المجتمعات الغربية في تعاملها مع القرض العائلي. ففي أوروبا وأمريكا، تغيب فكرة الإقراض بين الأصدقاء والأقارب إلا في أضيق الحدود، لأن المنظومة القانونية هناك لا تعترف بالعلاقات الشخصية كضمانة. فالقروض تُدار عبر البنوك حصريًا، وبضمانات مكتوبة صارمة.

وفي الثقافة الإنجليزية مثل شائع يقول: “لا تكن مُقترضًا ولا مُقرضًا”. وفي أمريكا يتداولون: “أقرض صديقك فتفقد المال والصديق معًا”. هذه الأمثال تعبّر عن قناعة بأن القروض تهدد العلاقات الإنسانية أكثر مما تقوّيها، لذلك يندر أن يقرض الغربي قريبه أو صديقه، ويفضّل اللجوء إلى البنك مهما كانت الفوائد. بينما في مجتمعاتنا يبقى القرض العائلي وجهًا من وجوه التكافل وواجبًا دينيًا قبل أن يكون التزامًا ماليًا.

إن التوازن المنشود قد يكون في الجمع بين الصرامة المؤسسية كما في الغرب، وبين الروح التكافلية كما في مجتمعنا.

الدَّيْن : أزمة ثقة قبل أن يكون أزمة مال..

المديونية ليست رقمًا ماليًا بل امتحان ثقة. بعض الناس يتخذون الدَّيْن عادة ويتهربون، فيهدمون القيم قبل أن يضروا بجيوب الآخرين. ومع ذلك، يظل هناك أوفياء يردون ديونهم بزيادة شكرًا وعرفانًا، وهم الامتداد الحقيقي لقيم الوفاء التي نحتاجها.

ولو أن الوزارة المعنية وافقت على إنشاء جمعيات مثل جمعية الغارمين العُمانية والجمعية العُمانية للمتقاعدين، لساهمتا في التخفيف من الأزمة. فأهل عُمان مشهورون بالجود والكرم؛ من الزكاة والصدقات إلى مساعدات رمضان والعيد ومساندة المتعثرين.

الأدب والفنون : مرايا صادقة للمديونية..

منذ القدم شكّلت الديون شرارةً لأزمات اجتماعية واقتصادية كبرى. ففي عام 1929 أدى تراكم الديون الفردية والتجارية إلى وقوع الكساد العظيم، وهو الحدث الذي ألهم الأدب والفنون لتصوير مأساوية المديونية وانعكاساتها على الإنسان. وقد جسّدت السينما العالمية هذا البُعد بوضوح؛ إذ تناول فيلم The Grapes of Wrath (عناقيد الغضب، 1940) للمخرج جون فورد محنة العائلات الأمريكية التي فقدت أراضيها وبيوتها تحت وطأة القروض مجسدًا هشاشة القيم أمام وطأة المال.

ولم يخلُ الأدب العالمي من معالجة خطورة الدَّيْن؛ ففي تاجر البندقية لشكسبير يتحول الدَّيْن إلى وسيلة ابتزاز، بينما يجعل فيكتور هوغو من الدَّيْن قدرًا مأساويًا يلاحق جان فالجان في البؤساء. وفي الأدب العربي كشف توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف هشاشة المجتمع حين يُسجن الفلاحون بسبب ديون صغيرة، كما نجد إشارات لدى نجيب محفوظ والطيب صالح إلى ارتباط الفقر والديون بمصائر مأساوية تغيّر حياة الأبطال.

أما الفنون الأدائية كالسينما والمسرح العربي، فقد جسّدت بجرأة مأساة المديونية، حيث نُقلت صور الإفلاس والسجون وانكسار العلاقات بلغة بصرية مؤثرة. ومع ذلك، ما زالت السينما الخليجية في عمومها متحفظة في تناول هذه القضايا الحساسة، مكتفية بتلميحات غير مباشرة عبر قصص الفقر أو صراع البقاء.

حلول عملية وخاتمة لازمة..

ومن واقع التجربة، يمكن أن تتجسد الحلول العملية في تشريعات عادلة تحمي المقرض والمقترض معًا، مع نشر ثقافة التوثيق كما أمر القرآن: «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمّى فاكتبوه». كما أن إنشاء صناديق تكافلية تدعمها الدولة والقطاع الخاص، والتعليم المالي المبكر للشباب لتعريفهم بخطورة الاقتراض العشوائي، وتعزيز ثقافة الادخار بحيث يُعوّد الأفراد على ادخار جزء من دخلهم للأيام الصعبة، كلها خطوات كفيلة بتقليل الاعتماد على القروض عند الأزمات.

القضية إذن تتجاوز الحسابات إلى جوهر الأخلاق. حماية التكافل تتطلب وعيًا فرديًا وتشريعًا مؤسسيًا، حتى لا يتحول الدَّيْن من باب خير إلى مأساة تفكك الأسر. وكما قال تعالى: «مَن ذا الذي يُقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة»، يبقى جوهر المسألة التزامًا إيمانيًا يصون للمجتمع وحدته وللأفراد كرامتهم.

إن بناء ثقافة الوفاء بالعهود، مهما صغر الدَّيْن أو كبر، هو امتحان لمروءتنا وصدقنا، وبه وحده نحفظ للمجتمع تماسكه ونستعيد الثقة المفقودة، فالوفاء بالدَّيْن عبادة تُزكّي النفس وتقرّبها من الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى