
التجديد استراتيجية بقاء وارتقاء
الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري
محلّل سياسي ، ودبلوماسي ، وسفير سابق
الأمة التي لا تجدد فكرها ومؤسساتها، تسقط في هاوية التقليد والتبعية. الحضارات التي توقفت عن التجديد اندثرت، بينما الأمم التي جعلت من التجديد ركيزة نهضتها (كأوروبا بعد النهضة أو اليابان والصين وكوريا والهند بعد الحرب العالمية الثانية) استطاعت التحول إلى قوى عظمى.
الإنسان، منذ أن وُجد على هذه الأرض، ظلّ يسعى إلى معنى أعمق لحياته، وإلى لحظة انبعاث جديدة تخرجه من الرتابة والركود.
فكرة تجديد الحياة ليست مجرّد نصيحة عملية، بل هي مشروع فلسفي وروحي عظيم، يُعيد صياغة وجود الإنسان في علاقته بخالقه و بذاته، بمجتمعه، وبالكون من حوله. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. هذه الآية تُرسي قاعدة كبرى : أن التغيير الحضاري يبدأ من التغيير الذاتي، وأن التجديد مشروع داخلي ينعكس أثره على الوجود الخارجي. في الفكر الإسلامي، التجديد لا يعني الانفصال عن الماضي، بل استلهام قيمه وتطويعها لزمن الحاضر.
القرآن ربط التجديد بالإحياء : ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17]، وكأن حياتنا الفردية تشبه الأرض القاحلة التي تنتظر الغيث. وهذا التشبيه بليغ : كما تتجدد الأرض بالمطر، تتجدد الروح بالعلم والإيمان والعمل.
تجديد الحياة ليس قرارًا لحظيًا، بل هو رحلة مستمرة من إعادة اكتشاف الذات، ومساءلة القيم، وصناعة المستقبل. قال الله تعالى : ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وكأنّ طريق التجديد يبدأ من الداخل.
الوجود الإنساني ليس مجرّد حركة بيولوجية متكرّرة، بل هو رحلة بحثٍ دائمة عن معنى، عن لحظة ميلادٍ جديدة داخل الزمن. الإنسان لا يُعرَّف بما يملك من سنوات، بل بما يُضيف إلى حياته من وعيٍ وتجربة وتجدد. ولذا، جاءت رسالة الوحي لتربط بين الحياة المتجددة ، وبين الإيمان والعمل الصالح : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]. فالحياة الطيبة هنا ليست فقط مجرد رزق ورفاه، بل هي تجدد داخلي، يُحرّك الفرد نحو معنى أسمى.
إنه انبعاث دائم ، أشبه بقيامة صغرى يعيشها كل فرد وأمة ، لتكون الحياة ــ لا مجرد مرور زمني ــ بل رحلة من الوعي إلى الخلود.
الغزالي يرى أن الإنسان مشروع مفتوح : “إنك إن لم تزد شيئًا في الدنيا ، كنت أنت الزائد عليها”. وقال الإمام الغزالي كذلك “ليس الإنسان بما هو عليه، بل بما يسعى أن يكونه”. الإمام الشافعي جعل التجديد شرطًا لبقاء الأمة : “من تعلّم قديمًا وجدّد حديثًا استنار قلبه”.
كبار الفلاسفة جعلوا من تجديد الحياة مشروعًا إنسانيًا شاملًا : سقراط قال : “الحياة التي لا تُفحَص ليست جديرة بأن تُعاش” ؛ أي أن إعادة النظر في ذواتنا شرط للمعنى. نيتشه دعا إلى “إرادة القوة” باعتبارها لحظة انبعاث تتجاوز الضعف والخضوع للتقاليد. كانط جعل التجديد مرتبطًا بالواجب الأخلاقي : إعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص غيرك دائمًا كغاية لا كوسيلة”.
إذن، التجديد ليس فقط خيارًا، بل قدر الإنسان والأمة ، بوابة إلى حياة أرحب ، وإلى مستقبل أكثر إشراقًا.
والتجديد ليس رفاهية فكرية ، ولا مشروع نخبوي ، بل هو استراتيجية بقاء وارتقاء ، طريق العرب الوحيد للانتقال من أمة مستهلكة إلى أمة صانعة للمصير. فإذا لم يبادر العرب إلى تجديد حياتهم ، فإن الآخرين سيواصلون صياغة حاضرهم ومستقبلهم بالنيابة عنهم.
الأمم لا تموت عندما تُهزم ، بل عندما تفقد القدرة على تجديد نفسها. والعالم العربي اليوم أمام خيارين :
• إما أن يستعيد مشروع التجديد الروحي والعلمي والمؤسسي من الداخل ؛ فيربط ذاته بمستقبله لا بماضيه.
• أو أن يبقى تابعًا لمعادلات الآخرين ، مجرد سوق للسلع ، ومَسْرَحٍ للحروب ، وملفٍّ على طاولة القوى الكبرى.
إن لحظة العرب اليوم شبيهة بلحظة أوروبا بعد الحروب الدينية ، أو اليابان بعد الهزيمة : إما أن يولدوا من جديد ، أو يسقطوا نهائيًا من التاريخ. لأن الأزمات الكبرى تفتح الباب أمام قفزات كبرى ، لكن فقط لمن يملك الشجاعة لاقتناصها.
لماذا تسقط الأمم في هوة التقليد والتبعية بينما تصعد أخرى لتصوغ ذاتها من جديد ؟. هذا السؤال هو لبّ الفكر السياسي العالمي. الأمم التي لا تجدد أدواتها الفكرية والمؤسسية تبقى أسيرة لماضٍ متآكل ، وتصبح رهينة للقوى الأكثر دينامية. المشكلة ليست في أن المسلمين فقدوا قوتهم ، بل في أنهم توقفوا عن التساؤل : كيف يمكن أن يجدّدوا حياتهم في عالم يتغير بسرعة.
التجديد ليس خيارًا ظرفيًا ، بل استراتيجية وجودية تضمن استمرار الأمة ، وتمنع سقوطها في الهامش التاريخي ، وأن تجديد الأمة يبدأ من تجديد الفرد : وهذا ينسجم مع ضرورة إعادة صياغة الإنسان العربي ليكون فاعلاً لا مفعولاً به.