
فن النقد الراقي.. بروتوكول الاختلاف وذوق الحوار
الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب في البرتوكول المؤسسي – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم
في زمنٍ أصبحت فيه المنصات مفتوحة للجميع، والأفكار تُنشر بسرعة الضوء، بات النقد جزءًا لا يتجزأ من أي عمل فكري أو ثقافي أو اجتماعي. فالنقد بحد ذاته ليس عيبًا، بل هو ظاهرة صحية وجميلة تُسهم في التصحيح والتطوير، وتمنح الفكر مساحة للنمو والنضج.
لكن المشكلة لا تكمن في الانتقاد ذاته، بل في أسلوبه ومقاصده؛ فبين النقد البنّاء والنقد الهدّام خيطٌ رفيع لا يراه إلا أصحاب الذوق والفكر السليم. فالنقد البنّاء هو ما يهدف إلى الإصلاح لا إلى الإحراج، وإلى توجيه الفكرة لا جرح صاحبها. إنه كالمرآة الصادقة التي تُظهر مواضع التحسين برقيٍّ واحترام، لا كسيفٍ حاد يجرح الكرامة ويُضعف الثقة. ومن هنا جاء السلوك الراقي في النقد كفنٍ راقٍ يُعنى بأسلوب التعبير، وطريقة الطرح، ومراعاة مشاعر الآخرين عند الاختلاف أو الملاحظة.
أولاً: الاطلاع قبل الانتقاد
من أولى قواعد بروتوكول النقد الراقي أن يكون الناقد مطلعًا على الموضوع اطلاعًا تامًا قبل أن يُصدر حكمه أو يُبدي رأيه. فكم من فكرة أُسيء فهمها، وكم من كاتبٍ ظُلِم لأن المتلقي قرأ سطرًا وترك عشرة، أو اقتطع جملة من سياقها فحكم على المقال كله من خلالها!، وهنا يفقد النقد قيمته، ويتحوّل إلى تسرّعٍ في الحكم لا يليق بمن يسعى إلى الحوار الناضج. إن من الذوق والعدل أن نقرأ بعينٍ منصفة، لا بعينٍ تبحث عن زلةٍ أو هفوة.
ثانيًا: ناقش الفكرة لا الشخص
من بروتوكول النقد أيضًا عدم تشخيص الموضوع؛ فالنقد البنّاء يتجه نحو الفكرة لا نحو صاحبها. لا يهاجم الأشخاص ولا النوايا، بل يناقش مضمون الفكرة وأثرها ومنطقها. أما التشخيص فهو منزلقٌ خطرٌ يُحوّل النقاش إلى خصومة، والحوار إلى صراعٍ شخصي، فيغيب الاحترام وتحضر الأهواء.، ولذلك قيل في أدب الحوار: “ناقش الفكرة، لا تهاجم صاحبها”.
ثالثًا: اللباقة في التعبير
الكلمات كالمفاتيح، منها ما يفتح القلوب، ومنها ما يغلقها.، والنقد الراقي لا يُطرح بحدةٍ أو سخرية أو استعلاء، بل بلغةٍ هادئةٍ مهذبة تراعي مشاعر الآخرين.، من الذوق أن نستخدم عبارات مثل:
“أقترح لو تمت صياغة الفكرة بهذه الطريقة”، أو “لعل الكاتب قصد كذا” وغيرها من العبارات الللائقة. بدلاً من الجمل الحادة التي تُشعر الآخر بالانتقاص أو الاستخفاف. فالذوق في الطرح يُعزّز قبول الفكرة ويُهيّئ الطرف الآخر لتقبّل الملاحظة بروحٍ إيجابية.
رابعًا: الرأي ليس حقيقة مطلقة
من إتيكيت النقد أن نُدرك أن الرأي ليس حقيقة مطلقة، بل وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ.، فالبعض يقول: “هذه وجهة نظري ومن حقي أن أطرحها”، وينسى أن حرية التعبير لا تعني حرية التجريح. إن البروتوكول في الحوار يُعلّمنا أن نُعبّر عن آرائنا باحترامٍ للآخرين، وأن نُدرك أن الذوق الرفيع هو من أبرز سمات الشخصية الواعية.
خامسًا: النية الطيبة أساس النقد
حين تكون نيتنا الإصلاح والتقويم، سنختار ألفاظنا بعناية، ونبحث عن أحسن السبل لتوصيل رسالتنا، وسنُقدّر جهد الآخر قبل أن نُشير إلى ملاحظاتنا عليه. بينما من كانت نيتُه الإحراج أو الظهور بمظهر العارف، سيقع حتمًا في فخ الغرور والتعالي.
وأخيرا فإن النقد فن يحتاج إلى ذكاءٍ عاطفيٍّ وذوقٍ اجتماعيٍّ، فهو ليس ساحة للمجادلة بقدر ما هو فرصة للتعلّم وتبادل وجهات النظر. إننا حين نُمارس النقد بروحٍ منفتحةٍ واحترامٍ متبادل، نرتقي بثقافة الحوار، ونُسهم في بناء بيئة فكرية راقية تُثمّن الفكرة وتُكرم صاحبها. فلنجعل من نقدنا جسرًا للتقويم لا سيفًا للخصومة، ولنُدرك أن الرقيّ لا يكون في الكلمات وحدها، بل في النوايا والأساليب والاحترام المتبادل، فبذلك نُجسّد أسمى معاني السلوك الراقي والبروتوكول في فنون التواصل والحوار.
كيف تنتقد بذوق؟
لتمارس النقد بأسلوب راقٍ يعكس وعيك ولباقتك، احرص على ما يلي:
· اقرأ بإنصافٍ وتروٍّ: لا تُصدر حكمك قبل الاطلاع الكامل على الموضوع، فالحكم المسبق ظلمٌ للفكرة وصاحبها.
· ناقش الفكرة لا صاحبها : وجّه نقدك نحو المضمون، وتجنّب الشخصنة أو الطعن في النوايا.
· اختر كلماتك بعناية: استخدم لغة مهذبة، وعبارات إيجابية، تُشعر الآخر بالاحترام لا بالإهانة.
· اجعل نيتك الإصلاح لا الإحراج : فالهدف من النقد هو البناء والتقويم، لا كسب الجدل أو الظهور.
· اختم بعبارة تقدير: أثنِ على ما أعجبك في الفكرة، ليكون نقدك متوازنًا وعادلاً.
وعلى الخير نلتقي، وبالمحبة نرتقي…