بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

خطة ترامب لغزة : إعمار مقيّد وسيادة مغيّبة

أحمد الفقيه العجيلي

 

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته لوقف الحرب في غزة، في لحظة حساسة يمر بها الشعب الفلسطيني بعد شهور من الإبادة والتدمير غير المسبوق. الخطة جاءت تحت شعار “إعمار غزة” وإعادة الحياة الطبيعية، لكنها في جوهرها تعيد إنتاج الوهم ذاته: إعمار بلا سيادة، وتهدئة بلا أفق سياسي.

اللافت أن الخطة طُرحت دون أي مشاركة فلسطينية؛ لم يُستشر أصحاب الأرض، ولم يُمنحوا حتى مقعدًا على طاولة النقاش. وهنا تتجلى المفارقة : كيف يمكن الحديث عن حل أو سلام في غياب الطرف الأساسي؟.

ومما يظهر من تفاصيل ما يُسمى بخطة ترامب لغزة، المؤلفة من 21 بندًا، أنها ليست مشروع سلام بل محاولة وصاية جديدة تُقصي الفلسطينيين عن القرار. فهي تمنح الإعمار والمساعدات تحت إشراف أمريكي ودولي، مع استبعاد كامل لحماس، ونزع للسلاح، وإدخال قوة أجنبية تتولى الأمن، بينما تُبقي الحديث عن الدولة الفلسطينية في خانة “قد” الغامضة والمؤجلة.

صدر بيان عن أمين عام مجلس التعاون الخليجي يُرحّب بالخطة، ويصفها بأنها “جهد دولي يُسعى من خلاله لوقف النزاع وتخفيف معاناة المدنيين”، مع التأكيد على منع التهجير وتسريع وصول المساعدات.
كما صدر بيان مشترك لوزراء خارجية الإمارات، مصر، قطر، السعودية، تركيا، باكستان، وإندونيسيا، بيان ترحيبي بالخطة بحسب ما نقلته وكالات الأنباء، عبّرت فيها عن الاستعداد للتعاون مع الولايات المتحدة بشأن التنفيذ. لكن اللافت أن هذه البيانات لم تُترجم حتى الآن إلى تبنٍ رسمي لنصّ الخطة التي أعلنها ترامب مع نتنياهو، مما يشي باحتمال تغييرات جوهرية في الصيغة النهائية.

المفارقة الأخرى أن معظم الدول التي سارعت مؤخرًا للاعتراف بدولة فلسطين كانت في طليعة المرحبين بالخطة. هذا يعني أن الاعتراف تحوّل في النهاية إلى خطوة رمزية بلا وزن سياسي، وكأنما لم يغيّر شيئًا في الميدان.

وبينما شهدنا في الأشهر الماضية تحوّلًا كبيرًا في الرأي العام العالمي ضد الاحتلال وفضح جرائمه، تأتي الخطة لتسحب هذا الزخم الشعبي وتعيد ترتيب الأوراق بما يخدم استمرار السيطرة الإسرائيلية.

الأخطر أن الخطة كُتبت بأقلام قريبة من نتنياهو، لتصبح أداة لإنقاذه من عزلته الدولية، ولإخراج ترامب من مأزق حرب إبادة فقدت غطاءها الدولي. الهدف واضح: وضع حماس في زاوية ضيقة، فإن رفضت بدت وكأنها تعادي العالم وتتحمل مسؤولية استمرار الحرب، وإن قبلت فهي تُعلن بنفسها هزيمتها وتسليم غزة لقيادات خارجية.

بعض البنود تكشف بوضوح النوايا؛ فالبند (17) ينص على أن الإعمار والمساعدات ستُنفذ حتى من دون موافقة حماس، في “المناطق الخالية من الإرهاب” التي تحددها إسرائيل، وهو ما يعني الالتفاف على المقاومة وفرض واقع جديد بالقوة. أما البند (19) فيتحدث عن أن “قد تتوفر الظروف” لقيام دولة فلسطينية، وكلمة “قد” تكفي لفهم أن الأمر لا يتجاوز الوهم.

حين نعود إلى التاريخ، نجد أن ما يجري اليوم ليس بعيدًا عن سيناريوهات أوسلو والوعود السابقة التي أُغرقت بالتعهدات ثم تبخرت. الفارق أن حجم الكارثة الإنسانية اليوم أضخم بكثير: آلاف الشهداء، مئات آلاف النازحين، مدن مدمرة بالكامل. ومع ذلك، يبدو أن العالم الرسمي يسعى لطي الصفحة سريعًا وكأن الدماء لم تُسفك.

ردود الفعل الشعبية جاءت رافضة: الفصائل الفلسطينية أجمعت على أن الخطة تستهدف تصفية القضية، ومظاهرات خرجت في الضفة وغزة ضد “الوصاية الأمريكية”، فيما امتلأت المنصات الرقمية بوسوم مثل “خطة التصفية” و”لا للتطبيع”. هذا التناقض بين الموقف الشعبي والرسمي يضع الأمة أمام لحظة فارقة: لحظة خذلان رسمي وعار تاريخي يقابله وعي شعبي متزايد.

الخلاصة أن هذه الخطة، بمضامينها الحالية، ليست إلا خيانة موصوفة، تعيد صياغة المشروع الصهيوني بغطاء أمريكي، وتجعل من “الإعمار” أداة ابتزاز سياسي. غير أن البدائل الحقيقية تظل في الوحدة الفلسطينية، وتبني مقاومة شعبية متنوعة، والدفع نحو دعم إنساني وإعمار غير مشروط، وتحرك عربي وإسلامي مستقل عن الضغوط الأمريكية. فهذه المسارات وحدها قادرة على حفظ التضحيات، ومنع تصفية القضية الفلسطينية تحت مسمى “السلام”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى