
الحَوكَمَة أم حكومة بنت خالتي؟!..
خالـصـة الصَّـلـتـيـة
في زمن تتقاطع فيه المصالح كخيوط العنكبوت، وتتحرك فيه الايادي الخفية بخفة اللصوص، يظل القرار النزيه غريبا يبحث عن مأوى يحميه من العبث. وهنا تبرز الحوكمة كسور منيع، يشاد من حجارة الشفافية ويرصع جدارها بالعدالة، فلا يعلو صوت القرابة على صوت القانون، ولا تفتح الابواب الا بمفاتيح النظام.
المؤسسات مدعوة لان تعي ان الحوكمة ليست شعارات ترفع، ولا اوراقا تركن في الادراج؛ بل هي يقظة مستمرة ومنظومة من القيم والانظمة تردع كل انحراف، وترده الى جادة العدل كلما حاولت الاهواء ان تجره بعيدا. انها الميزان الذي لا يميل مع القرابة ولا مع النفوذ، والسقف الذي يستظل تحته الجميع بذات القدر.
ولنا في الواقع امثلة كثيرة. تخبرني احدى الصديقات عن امرأة كانت كل مصالحها تمر من تحت طاولة “بنت خالتها”. كل مطالبها ترفع وتقر، حتى وان تعارضت مع المنطق، وتقدم على حساب اصحاب الكفاءة الذين يستحقون التقدير. كلما تقدم موظف بكفاءته، اطاح به تدخل الاقارب، وكلما ظهر مشروع يستحق النور، اظلمت الطريق امامه مصالح ضيقة. تضارب المصالح كان سيد الموقف، والعدالة تنزوي في الزاوية، بينما القرار النزيه يتيه بلا بيت يأويه، بل كان بيت الطاعة لسطوة المجاملات.
لكن الحوكمة على الورق وحدها لم تعد تكفي؛ فالاوراق تطوى، والاختام تزور، والاقلام قد تسخر. اما الحوكمة الرقمية فهي الحصن الذي لا ينام: كل خطوة فيه مسجلة، وكل قرار موثق، وكل يد تمتد خارج القانون تقطع بالبيانات لا بالخطابات. انها العدالة المؤتمتة، التي لا تفتح الباب الا بكلمة سر معروفة، ولا تسمح لبنت خالتي – تلك التي اعتادت ان “تمشي المواضيع” – ان تفتح الطريق، ولا حتى لعشر مثلها ان يتسللن من النافذة الخلفية.
المؤسسات لا يحميها النص وحده، بل تحرسها ثقافة متجذرة في وعي موظفيها وقادتها. فالقوانين قد تسن، واللوائح قد تعلق على الجدران، لكن ان غابت القيم وضمرت المسؤولية، تحولت الحوكمة الى ورق اصم لا يردع ولا يوجه. النزاهة تبدأ من الداخل قبل ان تترسخ في الانظمة، والقرار العادل يولد من ضمير حي قبل ان يكتب في سجل رقمي.
ولأن الحوكمة لا تكتمل خلف الابواب المغلقة، كان لا بد من شراكة المجتمع في الرقابة والمساءلة. حين تنشر البيانات بصدق، وتفتح التقارير للنقاش، وتتاح للمستفيدين نافذة يطلون منها على ما يدار باسمهم، تصبح الشفافية درعا واقيا لا يترك للمحاباة مكانا ولا للمجاملات مهربا. فالمساءلة العلنية هي العدو الاول لكل انحراف، والضوء الكاشف لكل يد تحاول ان تمتد في الظلام.
ان المؤسسات التي تتغذى على لغة “المجاملة” تذبل فيها العدالة وينفى منها القرار النزيه. اما حين تسود لغة “المساءلة”، فان كل توقيع يصبح شهادة، وكل قرار يصبح مسؤولية، فلا يجرؤ احد على فتح باب لبنت خالته، ولا يملك احد ان يمرر مصلحة على حساب حق. هنا فقط تتحول المجاملة الى استثناء عابر، وتبقى المساءلة قاعدة راسخة.
واذا كانت الحوكمة الرقمية اليوم حصنا، فان الغد يحمل لها درعا اشد قوة: الذكاء الاصطناعي. ذلك الحارس الذي لا يعرف قرابة ولا يجامل نفوذا، يقرأ القرارات ويحلل البيانات ويكشف تضارب المصالح قبل ان يتجذر. هو عدالة مؤتمتة، لا تفتح لها الابواب الا بكلمة السر، ولا تنحني امام مائدة الاقارب، لتظل المؤسسات في مأمن، ويجد القرار النزيه بيته الدائم.
وما ينقصنا اليوم ليس المزيد من ادلة الحوكمة المكتوبة، بل الارادة الحقيقية لتطبيقها على ارض الواقع؛ فالقوانين بلا تطبيق كالسقف بلا اعمدة، لا يقي ولا يحمي.
فهل من مؤمن بأن قوة الإرادة أصدق من آلاف الأدلة المسطورة؟