بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

بين التدوير الوظيفي وتدوير القيم

خالـصـة الصـلـتـيـة

 

 

لم يعد التدوير الوظيفي اليوم تفصيلا اداريا هامشيا، بل اصبح عنوانا عريضا تتكئ عليه خطط التطوير والحوكمة في المؤسسات. ومع ذلك، يبقى السؤال الاهم : هل يجري التدوير فعلا بهدف تجديد الدماء وبناء مهارات جديدة، أم انه يتحول أحيانا إلى غطاء لإحداث تغييرات لا تراعي البعد الانساني ولا تحترم قيمة الخبرة التي تراكمت عبر سنوات طويلة من العمل الجاد والمسؤولية ؟
الفارق بين التدوير الوظيفي وتدوير القيم كبير، وقد لا يلحظه البعض في القرارات لكنه ينعكس بوضوح في روح المؤسسة وثقافتها.

فالتدوير الوظيفي السليم هو الذي يمنح الموظف أفقا أوسع، ويكسر الجمود، ويفتح أمامه فرصا جديدة للنمو؛ لكنه حين يصبح مجرد حركة نقل للاشخاص دون فهم دقيق لادوارهم، او حين يستخدم لابعاد الخبرات تحت مبررات ادارية تخفي في داخلها شكلا من اشكال الاقصاء المبطن، يتحول من اداة تطوير الى ممارسة تزعزع القيم المهنية، وتنتج تغييرا شكليا لا يعكس رؤية حقيقية للنهوض بالمؤسسة.

في الكثير من البيئات المهنية، هناك رجال ونساء حملوا على اكتافهم عبء العمل لسنوات طويلة. كانوا اول من يحضر وآخر من يغادر، يعرفون نقاط القوة والضعف، ويقودون الازمات بصبر وحكمة، ويبنون العلاقات المهنية بما يحفظ تماسك فرق العمل واحترامها. لم يكونوا مجرد شاغلي مناصب، بل كانوا العمود الفقري لضمان استمرارية المؤسسة واستقرارها.

ورغم ذلك، قد يجد بعض هؤلاء انفسهم فجأة خارج اطار الضوء. تتراجع ادوارهم، وتنكمش مساحات التأثير التي صنعوها، وتظهر وجوه جديدة تتولى مواقع القرار دون انتقال معرفي او قيمي يحفظ ما تم بناؤه.

وهنا يبرز السؤال الاهم الذي تطرحه هذه الظاهرة: ماذا يحدث للمؤسسة حين تقصى الخبرات وتتسلم الوجوه الجديدة زمام الامور دون وجود عمود فقري من الحكمة؟ قد يلمع الاداء فترة قصيرة، لكن سرعان ما تظهر الفجوات التي لا يسدها الا من كان يعرف تاريخ الاخطاء، وملامح الطريق، ومفاتيح الحلول التي لا تكتسب في دورة تدريبية ولا تحفظ في كتيب الحوكمة.

ليس المقصود ان يبقى الاشخاص في مواقعهم الى الابد، ولا ان يقف التغيير عند عتبة معينة. المطلوب ببساطة ان يكون التدوير مبنيا على رؤية تستثمر في الخبرة بدلا من ان تتجاوزها. ان تكون عملية انتقال الادوار تراكمية، لا قطيعة مفاجئة. ان تتكامل الاجيال لا ان تتنافر، وان يقود اصحاب الخبرة مرحلة التغيير بدلا من ان يكونوا اول ضحاياه.

فالخبرة ليست عائقا امام التطوير، بل هي ضمان لثباته. والتغيير الذي لا يستند الى تاريخ المؤسسة يصبح تغييرا مرتجلا مهما بدا انيقا في التقارير. والهيكل الجديد الذي لا يحمل جزءا من ملامح الماضي يصبح هيكلا هشا، يستهلك وقتا طويلا قبل ان يتعلم ما كان يعرفه السابقون بالفطرة وبالتجربة.

اما تدوير القيم فهو الاخطر. يحدث عندما تتبدل معايير التقدير، وعندما يصبح البريق اهم من العمل، وعندما يتراجع احترام الانسان امام بريق المنصب. يحدث عندما تتحول الادارة من فن قيادة الى مجرد سلطة تنظيم، ويصبح الموظف رقما لا تاريخا، ودورا قابلا للاستبدال لا شريكا في النجاح.

والمؤسسة التي تعي قيمة ابنائها لا تخسرهم. قد تنقلهم الى مواقع مختلفة، لكنها لا تلغي حضورهم. قد تمنح الفرص لغيرهم، لكنها لا تحجب الضوء عن الذين صنعوا الطريق. فالقيمة الحقيقية لا تبنيها القرارات الادارية وحدها، بل تبنيها اخلاق الاعتراف بالعطاء.

ويبقى الفرق بين التدوير الوظيفي وتدوير القيم هو الفرق بين مؤسسة تتطور فعلا، واخرى تبدو وكأنها تتطور بينما تفقد جذورها. فالمؤسسات تبنيها العقول، وتحميها القيم، ولا يمكن لاي قرار مهما كان صائبا ان يعوض انسانا تم اقصاؤه رغم ما قدمه.

وحين نصل الى تلك اللحظة التي ندرك فيها ان التغيير لا يجب ان يجرح، وان التقدير لا يجب ان يغيب، نكون قد عرفنا جوهر التطوير الحقيقي. فالتدوير الذي يحفظ كرامة الخبرة هو تدوير يبني، اما التدوير الذي يهمل القيم فهو خطوة تضيع فيها المؤسسة قبل ان يضيع فيها الموظف.

وفي النهاية تبقى الحقيقة واضحة مهما تغيرت المشاهد:
ان من حمل المؤسسة في وقت الشدة يستحق ان تحمله في وقت التغيير.
وان التدوير الذي يحافظ على القيم هو تدوير يبني، والتدوير الذي يهدم القيم هو تدوير يفقد المؤسسة نفسها قبل ان يفقدها كوادرها.

ولعل المرحلة القادمة تتطلب وعيا اكبر بان التطوير الحقيقي يبدأ من احترام الانسان، لان احترام الانسان هو القيمة التي لا يجب تدويرها، ولا استبدالها، ولا التغاضي عنها في أي قرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى