بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

‏جبت صبعي صوب عيني .. قلت يا حافظ على عيني

الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري

محلّل سياسي، دبلوماسي، وسفير سابق

 

 

‏هذا المثل يختصر مأساة قرنٍ كامل من الأداء العربي أمة تخاف على نفسها حتى العمى فتفقأ عينها بيدها.

‏العالم العربي سلّم أسراره واستراتيجياته واقتصاده للغير وهو يظن أنه يحميها فصار رهينًا لإرادةٍ أجنبية في قراره وأمنه ومستقبله.
‏من يستورد أفكار غيره سيستورد قدره أيضًا.
‏النهضة تبدأ حين تكتشف الأمة أن أحدًا لن ينقذها غيرها.
‏العودة إلى الذات ليست حنينًا إلى الماضي بل بحثًا عن الطاقة التي جعلت الماضي ممكنًا.
‏بناءً على ذلك فإن الخلاص العربي لن يكون بالهتاف بل بإعادة بناء منظومة الإرادة عبر أربع ركائز :

‏1. إصلاح التعليم من التلقين إلى التفكير النقدي والإبداعي.

‏2. تحويل الاقتصاد العربي من الريع والاستهلاك إلى الإنتاج والابتكار.

‏3. استقلال القرار السياسي ليعكس المصلحة الذاتية لا الوصاية الخارجية.

‏4. إحياء اللغة والهوية كمصدر قوة ثقافية ومعرفية لا كرمزٍ عاطفي.

‏حين تتحقق هذه الركائز يمكن للأمة أن تعود إلى طاولة التاريخ كصانعةٍ لا كموضوعٍ للدراسة.

‏العرب اليوم أمام مفترقٍ حضاريٍّ حاسم؛
‏إما أن يواصلوا طريق الإرادة المستعارة فيتحولوا إلى أرقامٍ في جداول الاقتصاد العالمي؛
‏أو أن يصنعوا أنموذجهم الخاص في الحداثة الواعية.
‏أن نرى الضعف لا لنتعايش معه بل لنفككه.
‏أن نرى الغرب لا كوصيٍّ بل كشريكٍ يمكن أن نتعلم منه دون أن نذوب فيه.
‏أن نمتلك الشجاعة لنقول لا خلاص إلا بإرادتنا.
‏وحين يتحوّل الإصبع من أداة خوفٍ إلى أداة وعي
‏ستبصر العين العربية ما غاب عنها طويلًا؛
أن النهضة لا تُستورد، وأن الإرادة لا تُمنح
‏وأن الحاضر لا يُكتب إلا بأيدٍ تعرف قيمتها.
‏القدرة على تعريف المصلحة الذاتية هي بداية كل نهضة وفقدانها هو أول مراحل السقوط.

‏الانحدار العربي لم يكن قدرًا مفروضًا بل خيارًا ضمنيًّا اختارته النخب التي آثرت الاستهلاك على الابتكار.
‏بهذا المنظور يمكن القول إن العالم العربي لم يُهزم فقط في معارك الأرض بل في معارك العقل والإرادة.
‏لقد رمى نفسه في أحضان العالم المتقدّم طلبًا للحماية والتقنية لكنه في المقابل سلّم سيادته العقلية والاقتصادية والسياسية دون أن يدرك أن الحضارة لا تُستورد كما تُستورد السلع.
‏لقد صار العربي بوعيه أو بدونه مستهلكًا للحداثة بدل أن يكون منتجًا لها ومتفرّجًا على العالم بدل أن يكون صانعًا لمساره.

‏منذ القرن التاسع عشر، سعى العرب إلى التحديث لكنهم فهموه على أنه استيراد لا ابتكار.
‏ففتحوا أبوابهم أمام الغرب مدارس قوانين صناعات أدوات دون أن يفتحوا عقولهم لإنتاج المعرفة.
‏كانت النتيجة ما يمكن أن نسميه التنوير المعلّب تحديث شكلي بلا جذور فكرية.

‏المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب.
‏لكن العرب تجاوزوا هذا الولع إلى الذوبان في الآخر فبدل أن يطوّروا نموذجًا حضاريًّا خاصًّا بهم اكتفوا باستنساخ نموذج الغير دون وعيٍ بفلسفته أو بشروطه التاريخية.
‏لقد جلبوا الآلة وتركوا العقل الذي صنعها.
‏القوة لا تُقاس بما تملكه فقط بل بقدرتك على جعل الآخرين يعتمدون عليك.
‏وهنا تكمن المعضلة الغرب أعطى العرب ما يكفي ليبقوا تابعين لا ما يكفي ليصبحوا شركاء.
‏تحوّلت العلاقة بين العالم العربي والغرب إلى علاقة زبونٍ ومورّد لا مبتكرٍ ومكافئ.
‏بينما القوة الحقيقية هي أن تجعل الآخرين بحاجةٍ إليك أكثر مما تحتاج إليهم.
‏وهكذا صارت التكنولوجيا سلاحًا ناعمًا للاستتباع والمعونة الاقتصادية أداةً لإدامة الضعف والمفاهيم السياسية تُعاد صياغتها لتناسب من يمنح لا من يتلقى.

‏أخطر ما في التبعية ليس فقدان الموارد بل فقدان العقل النقدي.
‏لقد صار العربي يستهلك الأفكار كما يستهلك الهواتف والسيارات بلهفةٍ دون تمحيص.
‏وكلما ازداد انفتاحًا على العالم ازداد اغترابًا عن ذاته.
‏حين يتعوّد الإنسان أن تُفكّر له عقولٌ أجنبية يفقد مع الزمن القدرة على التفكير بنفسه.

‏وهذا ما حدث في التعليم والسياسة والإعلام العربي تكرار بلا تحليل تقليد بلا إبداع حداثة بلا هوية.
‏حتى اللغة أداة الوعي الأولى أُفرغت من طاقتها التعبيرية لصالح قوالب جاهزة، ومصطلحات وافدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى