بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

في زمن الكلمة الرصاصة والمعلومة القنبلة

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

 

في زمنٍ انقلبت فيه الموازين، لم تعد الحقيقة تُنطق، بل تُغتال. لم تعد الكلمة تُكتب، بل تُطلق. نحن نعيش في عصرٍ صارت فيه الكلمة رصاصةً تخترق العقول، والمعلومة قنبلةً تُفجّر الوعي، حتى غدا الباحث عن الحقيقة متهماً، والمتكلم بها مجرماً، والصامت عنها شريكاً في الخديعة.

إنها مرحلة جديدة في تاريخ الاجتماع السياسي، حيث تتبدّل القيم وتُعاد صياغة الإدراك الجمعي للأمم، وحيث لم تعد السلطة تُمارَس بالقوة العسكرية فقط، بل بالتحكم في تدفق المعلومة واحتكار تفسيرها.

من منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن القول إننا نعيش أشد مراحل “صناعة الوعي الزائف” خطراً. فالمجتمعات الحديثة لا تُقاد اليوم بالحديد والنار، بل تُقاد بالإقناع، بالتضليل، وبما يُعرف بـ”هندسة الرأي العام”.

لم يعد المواطن يرى العالم كما هو، بل كما تُريده أدوات الإعلام والتواصل. صارت الشاشات جيوشاً، والمواقع منصات إطلاق، والهاشتاجات ساحات معارك رمزية.
في هذا الواقع المزدوج، تتراجع الحقيقة أمام سطوة الرواية المعلبة، ويُصبح الخبر الموجّه أكثر تأثيراً من الوثيقة، والصورة المفبركة أكثر إقناعاً من الواقع نفسه.

لقد تحولت المعلومة إلى سلاحٍ ناعم يُستخدم لإعادة تشكيل الإنسان من الداخل، لتغيير منظومة قيمه، لتطويع وعيه، ليقبل ما كان يرفض، ويبرّر ما لا يُبرَّر. وهنا تكمن خطورة “الحقيقة المعاصرة” : إنها لم تَعُد تُبحث، بل تُصنع.

في الماضي، كانت الحقيقة تُكتشف في ميادين الفكر أو الصحافة الحرة أو الجامعات، أما اليوم فهي تُصاغ في مكاتب العلاقات العامة، وتُبرمج عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتُباع على شكل “تريند” مؤقت. إنها عولمة الخداع بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وفي ظل هذا الطوفان، يُطرح سؤال الوجود الأخلاقي : من يملك الحق في الكلام ؟.
ومن يملك حق المعرفة؟.

فالكلمة التي كانت رسالة تنوير أصبحت اليوم قنبلة تُلقى في فضاء مشبع بالريبة والانقسام. والمثقف الذي كان ضمير أمته صار بين خيارين : أن يصمت فيُتهم بالجبن، أو أن يتكلم فيُدان بالخيانة.

إن أخطر ما يواجهه المجتمع المعاصر هو اغتيال المعنى، حين تتساوى الكذبة بالحقيقة، ويصبح الصادق والمنافق سواء في عيون الجماهير التي فقدت بوصلتها. ولعل أعظم تحدٍّ أمامنا ليس في الوصول إلى المعلومة، بل في تمييز ما هو صحيح منها، لأن التضليل اليوم لم يعد في غياب الخبر، بل في فيض الأخبار.

في النهاية، لم تعُد الحرب على الأرض فقط، بل في العقول.
ومن يملك الكلمة يملك الاتجاه، ومن يملك المعلومة يملك المصير.

إنها معركة صامتة، لا يُسمع فيها دويّ المدافع، بل همس الأكاذيب التي تُعيد تشكيل الوعي الإنساني على مهل…!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى