بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين يتعافى النص… ويُشفى الصوت: سرّ الطبيب الخفي في عالم الأداء

فؤاد شمص

 

في عالم الأداء الصوتي، يظنّ الكثيرون أن المؤدي يواجه فقط نصوصًا جاهزة، مُحكمة، منسوجة بعناية. لكن الحقيقة… أن المؤدي الحقيقي لا يقرأ النص فقط؛ بل يعالجه.

نعم… هناك نصوص “مريضة”. وقد تبدو هذه الفكرة غريبة، لكن يكفي أن تقرأ سطرًا واحدًا منها لتدرك أن المرض لا يسكُن الكلمات… بل يسكن كاتبها.

فهناك نصوص تسعل لأن كاتبها لم يفهم المصطلحات، فيخطئ في استعمالها. ونصوص تتلعثم لأن صياغتها مرتجفة، تائهة، بلا ملامح. وهناك نصوص تختنق لأن الكاتب لا يملك الوعي اللغوي الذي يمنح النص رئتيه الحقيقيتين.

هنا… يظهر المؤدي الصوتي بدور الطبيب. فكما يضع الطبيب يده على نبض المريض، يضع المؤدي أذنه على نبض الجملة. يبحث عن الخلل… يعيد ترتيب النَّفَس… يرمّم الإيقاع… ويمنح النص شفاءً لم يحظَ به حين كُتب.

ومع ذلك، ليس المرض واحدًا. فالنصوص المتمارضة تلك التي تتصنع الألم هي نوع آخر من التحدي. صياغتها جميلة، نعم… لكن الطباعة مشوهة، وعلامات الترقيم تائهة، والأخطاء الإملائية تُنهك كل محاولة لقراءة سلسة. إنها نصوص متعافية في الداخل، لكنها تظهر للعالم بصورة مريضة… فيتوجب على المؤدي أن يعيد لها بهاءها، كما يعيد الرسّام حياة لوحة شوهها الغبار.

ثم تأتي النصوص المكتئبة… نصوصٌ ثقيلة، متعبة، مشحونة برائحة مزاج الكاتب. يكتبها وهو غارق في توتره، فينعكس ذلك على الإيقاع، على الجمل، على الروح. وهنا يحتاج المؤدي إلى أكثر من مهارة… يحتاج إلى قلبٍ يصغي، وإلى شجاعةٍ تُنقذ النص من كآبة لا تخصّه.

إن المؤدي الصوتي ليس قارئًا…
بل معالجًا… ومُرمّمًا… ومُنقذًا للنبرة.
كل نص يصل إليه يحمل تاريخًا غير مكتوب:
كاتبٌ مرتبك… تدقيقٌ غائب… مزاجٌ متقلّب… أو فكرة لم تكتمل.

لكن المؤدي هو من يمنح النص فرصته الأخيرة ليزدهر. هو من يزرع الحياة في الكلمات التي جاءت مكسورة، ويعيد ترتيب نبض الجمل التي وصلت منهكة.

ولذلك…
حين تعبر النصوص إلى الميكروفون،
لا تبحث عن أجمل صوت فقط…
بل ابحث عن طبيب الكلمات،
ذاك الذي يعيد للمرضى عافيتهم، وللمتعافين هيبتهم، وللمكتئبين نورهم.

في النهاية…
يبقى المؤدي الصوتي هو الجسر بين النص ومصيره.
فإما أن يتركه كما وجده…
وإما أن يرفعه من سقطته، ويعيد إليه الحياة التي يستحقها.

لذا، حين تسمع أداءً عظيمًا…
تذكّر شيئًا واحدًا:
قد لا يكون النص قد وُلد قويًا،
لكن المؤدي… هو من أعاده إلى الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى