أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

حرب السلطة .. المواطن أسير والثروة غنيمة..

 

الدكـتـورة/ هـبـة بنت عـريـض

 

حرب السلطة .. المواطن أسير والثروة غنيمة..

 

أين هو الفرد السوداني وفاعليته ومبادراته وكشوفاته الفكرية والعملية ؟!!.
ولماذا اختفى في الفترة الأخيرة، وحلتّ مكانه الكتل والجماعات والأحزاب والأجهزة الأمنية
والانقلابات والجيوش والمؤسسات والمنظمات غير الرسمية ؟!!.
ولمصلحة مَنْ تم تغييبه وتذويب شخصيته ؟!!.
بل الملاحظ أنه تم إلغاء وجوده كلياً كمواطن في وطنه، ولم يعد حتى أداة في يد النظام فحسب،
بل أصبح أداة في يد جماعات تدّعي انتسابها للنظام لكنها في الواقع خارجة عن أي نظام بالمعنى الواسع للنظام.
بل إنه في هذه الحقبة تم تذويب المثقف والكاتب والأديب، غاب ظريف المدينه، أحاديث النوادي وهمهمات المارة، بل إن الشوارع لم تنجُ أيضاً من ذلك الشحوب، فقد أصبحت ظلماء تتناثر على جانبيها الأوساخ بعد أن كانت تعج بأصوات المارة حتى ساعات الصباح الأولى.

المؤسف أن السودانيين يمرون بالمرحلة الأكثر قسوة في تاريخهم، مرحلة أبرز ملامحها الحركات المسلحة، والكتل الحزبية، واللوبيات الخارجية، والتحزبات القبلية والمناطقيه، في وقت ارتفع فيه صوت القبيلة، وانخفض صوت القومية لصالح أقليات سطحية وظفت كل شيء لمصلحتها دون العامة.

وملمح آخر يميز هذه الفترة النشاز، وهي الهجرات الشرعية وغير الشرعية راح ضحيتها آلاف الشباب، ثم لم تنجُ العلاقات الاجتماعية والأسرية من ذلك الغياب بين التشريد والقتل والغياب غير المُبرر، ثم وصل الغياب إلى مرحلة النزوح الكبير موسم الهجرة إلى الشمال نحو الجارة الشقيقة لاجل التعليم والعلاج والبحث عن الأمان.

وهنا حيث نحن مقيمون؛ اختفت الفاعلية الفردية تماماً، بل إختفى الفرد نفسه، وصار النشاط الفردي وهو جوهر الابداع الفكري والثقافي يعمل في خدمة الجماعات، رغم القشرة الوطنية الباهتة كغطاء، ولم يعد المواطن منفصلاً عن النظام فحسب، بل عن ذاته، وتاريخه، وهويته، وذاكرته؛ في سلسلة انفصالات؛ حتى لم يعد يعثر على هويته الفردية إلا من خلال الذوبان في كتل وجماعات : قبائل، أحزاب، منظمات، مؤسسات وجيوش، وإن كان سؤال العودة الى وطن حقيقي من هذا المواطن يطرح بين وقت وآخر تحت ضغط الأحداث، لكن سؤال العودة إلى الذات لم يعد مطروحاً، وكما تفتت المكان وصار ملكية جماعات، وطوبته عقارات خاصة، تم تفتيت ذات الفرد في دوامات لا تنتهي، وصار المطلب الأهم : نُريد وطناً؛ لكن كيف تبني وطناً بمواطن تم سحقه على مراحل منظمة؟!!.

حتى قضية الانتماء الى وطن اختفت تقريباً، وصار فيه الانتماء الحقيقي إلى أفكار وأساطير وعقائد وكيانات وكتل وأشخاص .. وهلم جرا، إذا لم يكن بدافع الإيمان؛ فبدافع الحماية لغياب الدولة الوطنية، وظهور الوعي المحارب أو الوعي الشقي في حرب الدفاع عن أحداث التاريخ بدل السؤال عن رهانات وتحديات ومخاطر الحاضر والمستقبل.

لم يعد سؤال الحداثة السياسية والثقافية والعلمية مطروحاً، صارت الأسئلة تُطرح من متسلقين، مشعوذين ودجالين من طبقة فراغية سطحية تنتج العطب فحسب؛ تتعلق بالإثم، وأفضل طريقة للسيطرة على مواطن جعله يشعر دائما بالاثم على أحداث تاريخ لا ناقة له فيها ولا جمل، لأن الآثم لا يريد الحرية بل الغفران!!.
بل أصبحت الأسئلة اليوم عن الحاجات اليومية الملحة كالمعيشة والرسوم الدراسية والكهرباء والراتب، حتى الحديث عن النظافة العامة، والمجاري والصرف الصحي أصبح غير مهم في وجود الأهم.

يحدث كل ذلك في حصار ثقافي مدروس ومستهدف بطرق مبتكرة، وأكثر دهاء في تلاعبات خارجية،
وخلق أزمات مفتعلة، ومتاهات تتجدد كل يوم عبر مراحل الثقافة السياسية التبسيطية التي تختزل وتسطح الأحداث، وتعتبر الحدث الأخير هو الحدث الأول، مع عجز معرفي في الربط بين الظواهر والتعامل مع الأحداث كجزر منعزلة وقطائع، وهي خاصية العقل الاختزالي المتخلف.

نحن في زمن الصيد والشعب طرائد، وكل التاريخ هو حكاية صياد.

السؤال الأخير :
هل غياب المواطن السوداني مرتبط بأسباب الأمس ؟؟
الحصار، الايديولوجيات، دول الجوار، الاطماع الخارجية ؟!! ، وإن مايحدث اليوم نتيجة تراكم تلك التجارب في المحو والحذف والإلغاء، وصناعة الكتل والجماعات المتحزبة ؟؟.

نحن أبناء اليوم إلا أننا مبتوري الذاكرة، وما يظهر على السطح من عاهات وفقاعات ليس قاع البحيرة الأعمق، ليس المرض الحقيقي؛ بل أعراضه فهل نتعالج أم يستمر المرض ينخر اأعضاءنا حتى الموت ؟؟!!.

أقيموا بني وطني صدورَ مطِيِّكُم ..
فإنِّي إلى قومٍ سِوَاكُم لأَ أمِيلُ.

فقدْ حُمَّت الحاجاتُ والليلُ مُقْمِرٌ ..
وشُدَّتْ لِطَيَّاتٍ مَطَايا وأرْحُلُ.

وفي الأرضِ مَنْأَى للكريمِ عن الأذى ..
وفيها لمنْ خافَ القِلَى مُتَحَوَّلُ.

لعَمْرُكَ ما بالأرضِ ضيقٌ على امرِئ ..
سرى راغباً أو راهباً وهوَ يعقل.

ولي دُونَكُم أهلُ سِيدٌ ..
عَمَلَّسٌ وأرْقَطُ زُهْلُولٌ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى