بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين يصبح الناقد متَّهَمًا : أزمة تقبّل النقد في مؤسساتنا الحديثة

قراءة فكرية في ذهنية الخوف من المراجعة والمساءلة

الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي

 

 

لم يعد بعض المسؤولين يفرّقون بين الخصم والناقد، ولا بين الحاسد والمحب.
كل من يعبّر عن رأيه يُتَّهَم بالمبالغة أو النيل من الهيبة.
صارت المجاملة معيار الولاء، والصراحة تهمة، وكأن الحقيقة جريمة تحتاج إلى ترخيص.
لقد تحوّل النقد، في كثير من مؤسساتنا، من ممارسة إصلاحية إلى قضية تستوجب التبرير،
ومن أداة تطوير إلى خطر ينبغي تجنبه،
فغابت روح الشفافية، وساد منطق التحفظ والحذر.

النية التي لا تُرى..

الناقد مرآة لا مطرقة..

قد تكون كلماته قاسية، لكنها قسوة الطبيب الذي يريد الشفاء لا الأذى.
ومشكلتنا أننا لا نقرأ الفكرة بل نحاكم النيّة.
من شبّ على ثقافة “رضا المسؤول” صعب عليه أن يحتمل من يقول له “أخطأت”.

هنا تتجلى المقارنة بين ثقافة الاعتراف وثقافة الإنكار؛
فالأولى، كما يوضح ميشيل فوكو، ليست مجرد استعدادٍ شفاف للمساءلة، بل فعل وعيٍ بالذات يتكوَّن داخل علاقات السلطة والمعرفة، حيث يكتسب الإنسان وعيه بأخطائه عبر مساءلةٍ صادقة لا عبر الخوف أو العقاب.
أما الثانية فهي هروبٌ من الضوء، إذ يتحوّل الدفاع عن الخطأ إلى شجاعةٍ زائفة، ويصبح الصمتُ مهارةً إدارية.
والفرق بينهما هو الفرق بين النهضة والتراجع،
بين مؤسساتٍ تتطور بفضل النقد، وأخرى تُجمّد باسم الاحترام.

نُرسل أبناءنا .. ثم نحاكمهم حين يعودون..

نُرسل أبناءنا للدراسة في بيئات تؤمن بحرية الفكر والمساءلة،
لكن حين يعودون ليطبّقوا ما تعلموه، نطالبهم بأن يتحدثوا بلغة “العرف القديم”.
نريدهم أن يبدعوا دون أن يُزعجوا أحدًا،
وأن يجددوا دون أن يمسّوا المألوف.

وهنا يظهر الصدام بين التنوير والامتثال.
فالتنوير، كما قال “كانت”، هو خروج الإنسان من قصوره الذي ارتكبه بنفسه،
لكن كثيرًا من مؤسساتنا لا تزال تُفضّل هذا القصور؛
تخشى الأسئلة أكثر مما تخشى الأخطاء،
وتدعو إلى التفكير بشرط ألا يغيّر شيئًا.
هكذا يُصبح المتعلم في الخارج غريبًا في وطنه،
لا يُسمع صوته إلا إذا ردد ما يريده الآخرون.

حين يُحاكم النقد بدل أن يُستثمر..

النقد الصحفي في جوهره شريك في الإصلاح،
لكنه يُعامَل أحيانًا كخصم يجب احتواؤه.
ترى بعض الإدارات تسارع إلى استدعاء مستشاريها القانونيين بدل الإعلاميين،
كأن الكلمة الصادقة تحتاج إلى محضر ضبط لا إلى جلسة حوار.
وهكذا، تُغلق الأبواب حين يُفترض أن تُفتح،
ويُستبدل النقاش بالتخويف، والمراجعة بالتبرير.

النقد ليس تشهيرًا..

النقد القائم على الحجة والمعلومة لا يسيء إلى أحد،
لكن بعض الإدارات ترفض التفريق بين التشهير والمساءلة،
فتلجأ إلى المحاكم بدل المراجعة.
غير أن أغلب تلك القضايا تسقط،
لأنها تُبنى على الانفعال لا على الدليل،
وتسعى إلى إسكات الصوت لا إلى تصحيح المسار.
فيُصبح الخوف من الكلمة أقوى من الرغبة في الفهم،
ويتحول الإعلامي والمثقف إلى متهمٍ محتمل،
بدل أن يكون شريكًا في البناء.

الطرق الخاطئة في مواجهة النقد..

بدل تحويل النقد إلى طاقة تطوير، نرى ثلاث ممارسات متكررة :

1. الأسلوب الدفاعي : تبرير متكرر دون اعتراف.

2. الأسلوب العدائي :
اتهام النوايا بدل مناقشة الفكرة.

3. الأسلوب الصامت :
تجاهل النقد حتى تتراكم الأخطاء.

وهكذا تُهدر فرصة الإصلاح، ويُفقد الاحترام قبل أن تُحسم القضية.
تتآكل الثقة، ويتحوّل الولاء من مبدأ إلى طاعة عمياء،
ويغدو الاعتراف بالخطأ ضعفًا بدل أن يكون شجاعة.

مقاربة سينمائية : رجل واحد في وجه الصمت..

في فيلم «اثنا عشر رجلًا غاضبًا»، يقف رجل واحد أمام أحد عشر آخرين،
يُطالب بإعادة النظر في حكمٍ صدر بتسرّع.
لم يكن عدوًا لأحد، بل مؤمنًا بأن العدالة لا تحتاج إلى أغلبية بل إلى ضمير.
يشبه الناقد الصادق هذا الرجل،
لا يصرخ طلبًا للجدل، بل لئلا تُدان الحقيقة قبل أن تُستمع.
إنه ضمير جماعي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه،
ولو بدا وحيدًا في وجه الجموع.

من يخاف النقد يخاف الحقيقة..

الأزمة ليست في المقال المنشور بل في الذهنية التي تخشى السؤال.
حين يتحوّل النقد إلى تهمة،
ويُستبدل النقاش بالتحفظ،
تتحوّل المؤسسات إلى جزر مغلقة لا يدخلها ضوء المراجعة.

والأخطر هو المسؤول الذي يعلّق قراراته على “التوجيهات العليا” دون توضيح.
تسأله: لماذا رفضت المقترح؟
فيخفض صوته ويقول: “التوجيهات لا تسمح.”
فإذا سألته: من من؟
يصمت وكأنك اقترفت ذنبًا.
لا أحد يعترف بمصدر القرار،
فالكل يرميه إلى الأعلى هربًا من النقد.
هكذا تتسع فجوة الثقة، ويضيع معنى المسؤولية.

إنها ظاهرة في البيئات التي تُغلّب السلامة الإدارية على المبادرة الفكرية،
حيث يصبح الحذر فضيلة، والشجاعة مخاطرة،
ويُكافأ السكوت أكثر من الإبداع.
لكنها ذهنية تُخالف جوهر القيم الإسلامية التي تؤكد تحمّل الأمانة والمصارحة.

قال تعالى : “فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا”..
وقال ﷺ : “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”..

فالمسؤول الحقّ لا يتخفّى خلف التعليمات،
بل يواجه بشجاعة، ويقرّ بأخطائه لأن الحقيقة أقوى من الأعذار.

الصدق لا يناسب المكاتب المكيّفة..

حين يكتب أحدهم بجرأة، يُتّهم بالحسد،
وحين يصمت، يُتّهم بالجبن.
كأن الصدق لا مكان له إلا إذا كان ناعمًا وموزون الكلمات.
لكن الأوطان لا تُبنى بالمجاملات،
ولا تُصلح مؤسساتها بالشكر المتبادل،
بل بالنقد المسؤول الذي يكشف الخلل ليُعالج لا ليُشهّر.

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
“رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي”.

رأى في النقد هدية لا تهديدًا،
وفي المصارحة تعاونًا لا خصومة.
وهذا هو جوهر القيادة الراشدة التي نحتاجها اليوم.

الخاتمة : النية الصادقة لا تخاف الضوء..

الذي ينتقد بصدق إنما يفعل ذلك حبًا في وطنه لا رغبة في خصومة.
إن تحويل النقد إلى جريمة يعني أننا نخشى الحقيقة أكثر مما نحب الإصلاح.
لقد آن الأوان لأن نؤمن أن النقد لا يهدم المؤسسات بل يُنقذها،
وأن الصراحة ليست خروجًا على الصف، بل علامة على النضج والوفاء،
فمن يخاف النور لا يثق في نية الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى