
الصداقات والتحالفات مرهونة بالمنفعة المتبادلة وليست بالشعارات..
الدكتور عدنان بن أحمد الأنصاري
محلل سياسي، ودبلوماسي، وسفير سابق
لقد أصبح العالم اليوم ساحة صراعٍ مفتوحة، لا مكان فيها للشعارات، ولا وزن فيها للعاطفة أو النوايا الحسنة.
فكما قال هنري كيسنجر: السياسة الخارجية ليست أخلاقًا وإنما مصالح قومية تُصاغ في ميزان القوة.
وبرنارد لويس أكد أن سقوط الأمم ليس فقط نتيجة تدخل خارجي، بل انعكاس لعجز داخلي عن إنتاج القوة وصيانتها.
أما الاقتصادي العالمي جوزيف شومبيتر فقد حذر منذ قرن بأن الأمم التي لا تُحوِّل ثرواتها إلى إنتاجٍ معرفي وصناعي ستظل أسيرة التبعية.
إن الحقيقة الصادمة أن العالم لا يحترم إلا من يملك عناصر قوته بيده: المال المنتج، السلاح المستقل، الغذاء والدواء، والشعب المصان بكرامة ومؤسسات مستقرة.
وما لم تتحقق هذه الأركان، ستظل الدول – مهما حملت من أسماء وأعلام – مجرد كيانات شكلية تستهلك ثرواتها وتُدار سياساتها من الخارج.
أولاً : قواعد النظام الدولي المعاصر..
• العالم محكوم بقواعد المصلحة البحتة، لا بالقيم أو الأخلاق.
• التحالفات متحركة، والصداقات تتبدل مع تبدل المنفعة.
• القوى الكبرى ترى في ثروات العالم النامي مجالاً للهيمنة والاستغلال، لا للشراكة.
• منطق السياسة يتلخص في مقولة كيسنجر : من لا يملك أوراق القوة، يصبح ورقة بيد الآخرين.
ثانياً : مأزق الواقع العربي..
رغم الثروات الضخمة التي يملكها العرب، إلا أنهم يقفون اليوم في موقع هشاشة تاريخي لافت :
• غياب قاعدة صناعية وإنتاجية حقيقية قادرة على تحويل الموارد إلى قوة مستدامة.
• الاعتماد شبه المطلق على الخارج في السلاح والتكنولوجيا، مما يجعل الأمن القومي مرهونًا بقرار الآخرين.
• انعدام الاكتفاء الذاتي الغذائي والدوائي، حيث تعتمد معظم الدول العربية على استيراد الأساسيات.
• هشاشة الاستقرار المؤسسي، نتيجة صراعات داخلية وتشرذم سياسي يعطل أي مشروع قومي جامع.
إن أي حصار اقتصادي أو تقني، في وضعنا الراهن، قادر على شلّ مجتمعاتنا وإعادتها إلى مرحلة التنقل على ظهر “البعير”، وهو ما يكشف حجم الانكشاف الاستراتيجي الذي نعيشه.
ثالثاً : الرؤية الاستراتيجية للنهوض..
لتجاوز هذه الكبوة التاريخية، لا بد من خطة جذرية تعيد تعريف مفهوم القوة في سياقنا العربي :
1. تحويل الثروات الريعية إلى اقتصاد إنتاجي :
• الاستثمار في الصناعة والتكنولوجيا، لا في استهلاك العوائد النفطية.
• تبني نموذج “الاقتصاد المنتج” كما دعا إليه شومبيتر وكينز، حيث تُوظف الموارد في خلق المعرفة والابتكار.
2. تحقيق الأمن الغذائي والدوائي :
• تطوير الزراعة الحديثة واستثمار الموارد المائية.
• إنشاء مصانع دواء إقليمية ذات طابع استراتيجي لحماية صحة الشعوب من الضغوط الخارجية.
3. بناء صناعة سلاح مستقلة وقدرات ردعية :
• تأسيس مجمعات صناعية عسكرية وتقنية عربية مشتركة.
• الاستثمار في البحث العلمي والتطوير لتقليل الفجوة مع القوى الكبرى.
4. تحصين الجبهة الداخلية وتعزيز المؤسسات :
• ترسيخ الوحدة الوطنية والعُقد الاجتماعي.
• بناء مؤسسات رشيدة ومستقرة قادرة على مواجهة الأزمات.
لقد أثبت التاريخ أن السياسة لا تعرف العواطف، ولا تُقاس بالنيات الطيبة، بل بالقدرة على حماية المصالح القومية.
وكما قال كيسنجر : من لا يمتلك القوة ليدافع عن مصالحه، سيجد من يفرض عليه مصالح الآخرين.
إذا أردنا أن يُحترم العرب في عالم لا يرحم الضعفاء، فعلينا أن نمتلك عناصر قوتنا بأيدينا : اقتصادًا منتجًا، سلاحًا مستقلًا، غذاءً ودواءً محلّيَّيْن، ومجتمعًا موحدًا ومصانًا.
إن المستقبل، رغم قسوته، لا يزال بيد من يملك الإرادة لبنائه، وإذا ما توحدت إرادة القادة العرب على هذا النهج، فإن الأمة العربية ستخرج من حالة الانبطاح والتبعية لتعود قوةً فاعلة، لا مجرد ساحة للتجارب.
وعندها فقط، سيُعاد رسم موقعنا في العالم لا كورقة في أيدي الآخرين، بل كقوةٍ مستقلةٍ لها كلمتها ومكانتها في ميزان الأمم.