بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

اللقاء هناك

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف وتطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال

 

كان يا مكان، في مكانٍ لا يُشبه الأمكنة، وزمانٍ خارج حدود الساعات…
كان هناك رجل يُدعى إنسان.

لم يكن إنسان سيئًا ولا مثاليًا… كان ببساطة ككل البشر: يحمل قلبًا يفرح حينًا ويثقل أحيانًا، يمضي بين الوجوه والطرقات، يحمل في صدره جُعبَةً من كلمات سمعها هنا وهناك.

وذات ليلة، بعد يومٍ طويل من محاولات الفهم والتبرير، نام إنسان وهو يُفكّر:
“لماذا يقولون ما يقولون؟ لماذا أُرهقني نظراتهم وأقوالهم؟ هل حقًا أنا كما يرون؟”

وفي نومه، رأى نفسه في أرضٍ عجيبة… لم تكن سماؤها كسماء الأرض، ولا شمسها تشبه شمسنا.
وهناك، التقى حكيمًا عجوزًا، يقف قرب بحيرة صافية، يلمع وجهها كمرآة لا تُخفي شيئًا.

قال الحكيم:
“مرحبًا بك يا إنسان… أراك أثقلتك كلماتهم.”

هزّ إنسان رأسه:
“نعم… صرتُ أعيش بين جُملهم، بين نقدهم حينًا، ومدحهم حينًا آخر.
تعبتُ من محاولتي أن أفهمهم أو أن أُرضيهم.”

ابتسم الحكيم وأشار إلى البحيرة:
“انظر هناك… ماذا ترى؟”

قال إنسان:
“أرى انعكاسي.”

قال الحكيم:
“لو رميتَ حجرًا صغيرًا في الماء… هل يبقى الانعكاس كما هو؟”

قال:
“لا… يتشوش.”

قال الحكيم:
“وكلمات الناس… هي كالحجارة في ماء نفسك. إن أعطيتها وزنًا كبيرًا، شوّهت صفاءك.
وإن تعلمت أن تراها كما هي… مجرد تموّجات، ستعود مرآتك إلى صفائها.”

صمت إنسان طويلًا… ثم قال:
“لكن… أليس بعضهم على حق؟”

قال الحكيم وهو يبتسم ابتسامة العارف:
“ربما… لكن الحكيم لا يملأ قلبه بحكم الآخرين، بل يُنصت لصوت ذاته أوّلاً.
خذ من كلامهم ما ينفعك، ودع الباقي يمضي… فالناس يُسقطون أوجاعهم، أحلامهم، وخوفهم في حديثهم عنك.
إن أخذت كل شيء على محمل الجد… حملت ما لا يُطاق.”

ثم أضاف:
“تذكّر… اللقاء الحقيقي مع نفسك، ليس هنا بينهم… بل هناك… حيث تصمت الأصوات وتسمع قلبك فقط.”

استفاق إنسان من نومه، وفي قلبه بقعة نور جديدة…
ومنذ ذلك اليوم، حين يسمع قولًا أو نقدًا أو حتى مدحًا… كان يبتسم بهدوء ويتمتم:
“اللقاء هناك… ليس هنا.”

عزيزي القاريء..

لا تأخذ الناس على محمل الجد… فكلٌّ يُحدّثك من مرآته، لا من حقيقتك.

طريق السلام يبدأ حين تُدرك: أنت وحدك تعرف من أنت… واللقاء الحقيقي هناك، في أعماقك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى