
الريف الأوزبكي.. مهد الأصالة ولحن الحقول
الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
هناك، حيث ينحسر ضجيج المدن خلف الأفق وتخفت العجلة أمام إيقاع الطبيعة يمتد الريف الأوزبكي كقصيدةٍ مترامية كُتبت بلغة التراب وعطر السنابل وتُليت على مسامع التاريخ بلكنة الأرض.
الريف هنا ليس مجرد امتداد جغرافي، بل هو كيان نابض، يحتضن الذاكرة، ويُربّت على كتف الأصالة ويمنحك شعورًا بأنك عدت إلى مكان ما كنت تعرفه، حتى لو لم تزره من قبل.
في أوزبكستان، لا تُفلح الأرض إلا إذا سُقيت بالأغاني ولا ينهض الفجر إلا على صوت دلو يلامس ماء البئر، أو خطوات فلاح يُصلي للتراب قبل أن يحرثه.الحقول لا تُثمر فقط قمحًا، بل تُثمر الحكايات… ويوم الحصاد يصبح كل شيء قابلاً للغناء.
تمرّ بك القرى كأنك تعبر دفاتر قديمة: بيوت طينية واطئة، تتوشح بنباتات التوت والرمان، ونوافذ مفتوحة دومًا لا تتقن الغلق إلا حين تنام الطيور. أما نساء الريف الأوزبكي يشبهن الأرض التي يسرن عليها: خصبة، صلبة وعطوفة، .ينسجن الخبز كما ينسجن القصائد، ويمسحن جبين الطفل كما يُمسحن تعب النهار عن وجوه أزواجهن. وحين تأتي ضيفًا، لا يسألونك من أين أتيت، بل يسألون: هل شربت الشاي؟، وهو شايٌ أخضر، يُقدَّم في كأس صغير، كأنه دعاء صامت بالطمأنينة.
في الريف، الحياة لا تُزيف نفسها. الأعراس تبدأ بالدفوف ولا تنتهي إلا حين تبتسم النجوم.
والمآتم تُعقد في حضن الصمت، لا تكسره سوى آيات تتلوها شفاه تعرف معنى الرحيل.
لكل حجرٍ قصة، ولكل ظل شجرة حكاية، وكل طريق تُفضي إلى قلب، لا إلى وجهة.من الحقول يرتفع الصوت، لا احتجاجًا، بل امتنانًا، تُغنّى الأهازيج في زراعة القطن والقمح، وتُردَّد الأغاني لا ترفًا بل عزاءً من تعب الطريق. حتى الدف، لا يُقرع من أجل العُرس فقط، بل يُقرع حين يضيق الصدر، ويحتاج القلب لمن يسمعه.
الريف الأوزبكي لا يجمّل نفسه. لا يخجل من بساطته، ولا يزيف ابتساماته. هنا، الوطنية ليست نشيدًا صباحيًا، بل عرق يُسقى في الحقول، ووجبة تُقتسم بين الجار والضيف. وإن أردت أن ترى أوزبكستان على حقيقتها، فلا تزر قاعات المؤتمرات، بل اجلس تحت شجرة جوز مع رجل عجوز، واستمع فالريف ليس خلف البلاد، بل في صدرها. وإن كان في الظل، فهو الظل الذي يُنبت وما يُقال همسًا هنا، يسمعه التاريخ جهرًا فيما بعد.