
حين تتجاوز الرغبة في الاستقلال حدود المصير المشترك!!..
الدكتور عدنان بن أحمد الأنصاري
دبلوماسي وسفير سابق
في زمن تآكل الحدود الصلبة، وتمدّد القوى الناعمة، لم تعد السيادة فعلاً فرديًا، بل أصبحت وظيفة تشاركية. الدول التي تنكفئ تحت عنوان “النية السيادية” تجد نفسها، غالبًا، خارج خرائط التأثير، وتدفع ثمن العزلة على شكل استنزاف اقتصادي، أو تهميش دبلوماسي، أو احتواء استراتيجي.
المصير المشترك لم يعد فكرة مثالية؛ بل بات ضرورة واقعية تفرضها الأزمات البيئية، الأمنية، والاقتصادية العابرة للحدود. فمن يُنكر هذه الحقيقة، يُقامر بمصيره السياسي على مذبح أوهام السيادة المطلقة.
ليس في النية السيادية ما يُعيب، إن كانت تستند إلى مشروع وطني راسخ، يستمد شرعيته من التوازن لا من الانعزال. غير أن الخطر كل الخطر، حين تتحول هذه النية إلى حجاب يحجب الرؤية، أو إلى صدى ذاتي لا يسمع سوى صوته.
إن الإيمان بالمصير المشترك لا يُلغِي السيادة، بل يحرّرها من سجنها الفرداني، ويمنحها القدرة على أن تكون مؤثرة لا منغلقة. ففي النهاية، لا تنجو الدول بالانكفاء، بل بالانخراط الذكي في معادلات تُدرك أن من لا يقف في صف التاريخ، يقف في مهبّه. وإنّ أكثر الأوهام خطورة، أن تظنّ بأنك مستقلٌ… لمجرد أنك وحيد.
في السياقات الدولية والإقليمية، لطالما شكّلت السيادة مفهوماً مقدسًا في الأدبيات السياسية.
غير أنّ هذه القداسة تفقد معناها حين تتحول السيادة إلى غاية مغلقة، منفصلة عن محيطها، رافضة لأي صيغة من صيغ التكامل أو الشراكة المصيرية. فحين تُصبح “النيّة السيادية المستقلة” أقوى من الإيمان بالمصير المشترك، فإننا لا نكون أمام خيار سياسي مشروع، بل أمام اختلال عميق في فهم معادلات البقاء والتموضع.
ومن هذه الزاوية، فإن السيادة حين تُصاغ كرد فعل على الشراكات أو التحالفات تتحول إلى وسيلة لإلغاء التزامات المصير، لا لتوطيد الأمن أو صناعة النفوذ.
الميكافيلية السياسية تُبرر الانكفاء باعتباره حنكة، وتُحيل المصير المشترك إلى رفاهية أخلاقية لا مكان لها في ميدان الصراع. وهنا يُولد الشك، لا في الآخر فحسب، بل في كل مقاربة تعاونية تنبني على مفهوم “المصلحة الجماعية”.
تتراجع القيمة المطلقة للسيادة أمام منطق “الفاعلية الجيوسياسية”، حيث يُصبح الاستقلال الحقيقي مرهونًا بالقدرة على التأثير في محيط معقّد، لا على مجرد التمايز عنه.
ووفق هذا المنطق، فإن الدول التي تظن أن الانكفاء ضمانة، سرعان ما تكتشف أن الانفصال عن التكتلات والمصائر الإقليمية يجعلها مكشوفة، هشّة، وعُرضة للضغوط من الداخل والخارج على السواء. فالعزلة ليست سيادة بل بداية الانحدار نحو هامش التاريخ.
إن المشترك الحضاري لا يُفضي آليًا إلى مصير موحّد؛ فالوحدة الثقافية ما لم تُترجم إلى مشروع سياسي راشد؛ تظلّ حالة وجدانية غير مُلزِمة.
ومن هذا المنظور، فإن الإفراط في التمسك بالسيادة دون إدراك للارتباطات البنيوية التي تربط المصائر، هو ما يجعل الكيانات تنهار ذاتيًا، لا بفعل المؤامرات، بل بفعل غياب النُضج السياسي الذي يُوازن بين الخصوصية والانتماء الإقليمي.