بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

‏هندسة موازين القوي عبر الاقتصاد والمعرفة

الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري

محلّل سياسي، ودبلوماسي، وسفير سابق

 

‏الدول قيمتها لا تُقاس بمساحتها أو عدد سكانها، بل بقدرتها على إدراك اللحظة التاريخية، واستثمار عناصر القوة الكامنة فيها. ‏والكويت – بما لها من رصيد سياسي ودبلوماسي – تسعى إلى الدخول في مرحلة جديدة من إعادة التموضع في النظام الدولي، عبر مشروع يقوم على نقل العلم، توطين التكنولوجيا، وتنويع مصادر الدخل. ‏هذه الرؤية تستند إلى إدراك استراتيجي وهو من لا يشارك في صياغة قواعد اللعبة، سيُحكم عليه باللعب وفق قواعد الآخرين .

‏اللقاءات التي عقدها ممثل صا حب السمو امير الكويت سو الشيخ صباح الخالد الصباح ولي العهد الكويتي في نيو يورك موخرا مع قيادات مايكروسوفت، جوجل، وفرانكلين تمبلتون ليست مجرد نشاط بروتوكولي، بل هي انعكاس لتوجه استراتيجي لفتح الاقتصاد الوطني أمام الشركات متعددة الجنسيات بهدف نقل التكنولوجيا وتوطينها. ‏هذا النهج يتسق حول قدرة الدول الناشئة على اللحاق بركب الكبار عبر أخذ التكنولوجيا حيثما وُجدت، وصياغتها بما يخدم هوية المجتمع المحلي”.

‏لقاء سمو ولي العهد أبرز بوضوح أن الكويت تراهن على الشباب كقوة فاعلة، من خلال اكتساب المهارات العملية والعلمية الحديثة، والانخراط في القطاعات الحيوية كالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية. ‏هنا نجد صدى لفكرة المفكر الاستراتيجي ألفين توفلر: “من يملك المعرفة يملك المستقبل”، إذ أن الاستثمار في رأس المال البشري هو جوهر التنمية المستدامة.

‏إن الكويت اليوم أمام فرصة استراتيجية تاريخية لتجاوز مرحلة الاعتماد على النفط والدخول في عصر الاقتصاد المعرفي. ‏نجاح هذه الرؤية يعتمد على تحويل الخطاب إلى خطط تنفيذية، واستثمار الطاقات الشبابية، وبناء شراكات حقيقية مع القوى الاقتصادية العالمية.

‏هذا يمثل إدراكاً عميقاً من القيادة الكويتية الرشيدة بأن الاعتماد الأحادي على النفط يهدد الأمن القومي الاقتصادي. ‏من هنا فإن بناء اقتصاد متنوع – يشمل التكنولوجيا، الزراعة الحديثة، والصناعات الحيوية – يعد خطوة لتقليل المخاطر وتوسيع آفاق النمو. ‏واستخدام العلاقات السياسية كمنصة لتعزيز المصالح الاقتصادية. ‏هذه السياسة تؤمن بأن من لا يشارك في صياغة قواعد اللعبة، سيُحكم عليه باللعب وفق قواعد الآخرين”.

‏الكويت تدرك تحديات المرحلة، وتستعد لإعادة صياغة اقتصادها وفق أسس حديثة. ‏وهي تسعى لتكون منصة استثمارية إقليمية تربط بين رأس المال العالمي والطاقات الخليجية الشابة. ‏في العمق، هناك إدراك أن الانتقال إلى عصر ما بعد النفط يحتاج إلى شراكات استراتيجية تضمن نقل العلم، التكنولوجيا، والخبرات إلى الداخل الوطني.

‏إن ما طرح في نيويورك لا ينبغي أن يُقرأ بوصفه مجرد لقاء رسمي، بل كخارطة طريق نحو تحول هيكلي في الاقتصاد الكويتي. ‏فإذا ما أُحسن استثمار هذه الرؤية عبر سياسات تعليمية قوية، وحوكمة اقتصادية شفافة، وجرأة في اتخاذ القرار، فإن الكويت قادرة على أن تصبح خلال عقدين نموذجاً للدولة الخليجية التي جمعت بين ثروتها الطبيعية وطاقاتها البشرية والمعرفية.

‏كون المعرفة هي المورد الأساسي، والتعلم هو رأس المال الحقيقي، وما سواه أدوات تكميلية . من هنا، فإن التحدي أمام الكويت هو تحويل هذه اللقاءات والوعود إلى برامج عملية تُمكّن شبابها من قيادة المستقبل، وتضع اقتصادها في مصاف الدول الكبرى، وتفتح آفاقاً أوسع لعلاقاتها الدولية على أساس المصالح المتبادلة.

‏لقاء سمو ولي العهد الشيخ صباح الخالد الصباح ركز على دعم الكفاءات الشبابية، من خلال تمكينهم من التكنولوجيا الحديثة واكتساب المهارات العملية والعلمية اللازمة للانخراط في القطاعات الحيوية.‏ هذا ليس مجرد طموح نظري، بل يمثل استراتيجية بعيدة المدى لإعداد جيل قادر على قيادة الدولة في عصر التحولات الكبرى. ‏فالشباب هم القاعدة البشرية التي ستحدد إن كانت الكويت ستبقى لاعباً محدود التأثير، أم أنها ستقفز إلى مصاف الدول القادرة على صياغة مستقبلها.

‏لقد أدركت القيادة الكويتية الرشيدة أن الاعتماد الأحادي على النفط لم يعد يضمن الاستقرار الاقتصادي. ‏من هنا جاء التركيز على توسيع قاعدة الاستثمارات، وتنويع مصادر الدخل، سواء عبر التكنولوجيا، الزراعة الذكية، أو الصناعات الحيوية.

‏التحرك الكويتي الأخير في نيويورك يمكن قراءته باعتباره ممارسة متقدمة لـ الدبلوماسية الاقتصادية؛ ‏أي تحويل السياسة الخارجية إلى أداة مباشرة لتعزيز المصالح الوطنية عبر الشراكات الاستثمارية ونقل التكنولوجيا لأجل هندسة موازين القوى عبر الاقتصاد والمعرفة.

‏فإذا ما استثمرت الكويت هذا الزخم عبر سياسات تعليمية متينة، وإصلاحات هيكلية، وشراكات دولية مدروسة، فإنها قادرة على أن تتحول خلال عقدين إلى نموذج للدولة الخليجية العصرية التي جمعت بين ثروتها الطبيعية وطاقتها البشرية والمعرفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى