بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

شمة .. الغفلة التي دقّت جرس اليقظة!!

خالـصـة الصـلـتـيـة

 

 

في ولاية السويق، حيث اعتادت الشمس أن تشرق على وجوه الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم، أشرقت هذه المرة على فاجعة أيقظت الوطن كله. الطفلة شمة بنت ياسر الجمهوري، طالبة الصف الأول، وجدت بعد ساعات داخل حافلتها المدرسية وقد فارقت الحياة. حادثة تختصر وجعا بحجم وطن نسي أن يلتفت إلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة. خبر قصير في صياغته، لكنه طويل في وجعه، عميق في أثره، صادم في تكراره.

لم تكن شمة تمشي إلى المدرسة، كانت تمشي إلى الغياب، بخطوات من نور لا تعرف الظل، تحمل حقيبتها الصغيرة على ظهرها كأنها تحمل الحلم كله، وتلوح لأمها بابتسامة تختصر البراءة والعالم في آن واحد. غادرت بيتها وهي تظن أن الصباح وُجد ليحتضنها، ولم تكن تدري أن النهار تلك المرة سيكون قاتلا، وأن الحافلة التي كانت تفتح لها ذراعيها كل يوم، ستغلق عليها بابها الأخير.

جلست في مقعدها الصغير تنظر من النافذة كما تفعل كل يوم، ثم غمضت عينيها قليلا كمن ينتظر جرس المدرسة ليوقظه. غير أن الجرس هذه المرة لم يرن في الفصول، بل في قلب الوطن كله. تحركت الحافلة، توقفت، نزل الجميع، وتبعثرت الأصوات في ساحة المدرسة، وبقي في الخلف صمت يختزن وجعا لا يرى وأنفاسا تتلاشى تحت لهيب الحديد. لم يلتفت أحد، كأن الحياة ماضية على موعدها المعتاد، وكأن الطفلة الصغيرة ليست من هذا العالم.

ساعات مرت، كانت الشمس خلالها تحرق المقاعد والوقت معا، حتى فُتح الباب أخيرا، فلم يجدوا طفلة نائمة بل مرآة تعكس وجوهنا جميعا، نحن الذين اعتدنا الغفلة حتى صارت عادة، وتصالحت مؤسساتنا مع الإهمال حتى صار نظاما.

الخبر انتشر كطعنة في القلب. صدمة أخرى تضربنا نحن الذين ظننا أننا تعلمنا من المآسي السابقة، لكنها تكررت لأننا لم نتعلم، ولأننا نحفظ الدروس بالحزن لا بالفعل. كم من مرة فقدنا طفلا وقلنا قد انتهى الأمر، ثم عدنا لنكرر الخطأ ذاته كأننا نعشق الوجع.

ما حدث لم يكن قدرا من السماء، بل غفلة من الأرض. غفلة بشر جعلوا الأمان إجراء إداريا لا إحساسا إنسانيا. سائق لم يُحص، ومشرفة لم تُبصر، ومدرسة لم تتفقد، ووزارة لا تسمع إلا بعد أن يكتب البيان. إنهم جميعا خيوط في نسيج واحد من اللامبالاة أحكمنا نحن غزله، ثم جلسنا نبكي نتائجه.

ما حدث لشمة لم يكن صدفة، بل نتيجة لسلسلة طويلة من “سيمشي الحال”، و”ما مشكلة”، و”الله الحافظ”، حتى صارت الغفلة سلوكا عاما. ليست الأولى، وربما لن تكون الأخيرة ما لم نستفق من غفلتنا. كم من حافلة تقل أطفالنا كل صباح دون مراقبة حقيقية أو تدريب كاف أو إجراءات واضحة؟ نحن بحاجة إلى يقظة وطنية شاملة، إلى قانون يحاسب، وتقنية تراقب، وضمير يستيقظ. لا وقت بعد اليوم للأعذار، ولا مجال لتكرار الحزن.

المشكلة ليست في القدر، بل فينا نحن. في الغفلة التي صارت عادة، وفي التهاون الذي يبرر لنفسه أن الحياة تمضي رغم كل شيء. السائق الذي لم يتفقد المقاعد، والمشرفة التي لم تُحص الأطفال، والمدرسة التي لم تفعّل نظام المتابعة، والوزارة التي لم تُلزم الجميع بمعايير سلامة صارمة، والمجتمع الذي لم يُطالب بحق أطفاله في الأمان، كلهم يشتركون في هذا الفقد. ليست هذه مأساة أسرة واحدة، بل مأساة وطن غابت عنه ثقافة المسؤولية حين استسلم لعبارة “ما بيصير شيء”.

الخلل لا يبدأ في الحافلة، بل في العقلية التي تتعامل مع السلامة كإجراء شكلي لا كقيمة أخلاقية. نحن نعيش ثقافة “الله الحافظ” بدلا من ثقافة “الاحتياط واجب”. حين تطفأ حياة طفل، فإننا لا نفقده وحده، بل نفقد جزءا من إنسانيتنا.

شمة لم تكن تطلب معجزة، بل التفاتة واحدة، سؤالا بسيطا: “هل نزل الجميع؟” كانت تنتظر إنسانا واحدا فقط يشعر أن بين يديه أمانة حياة لا تعوض، لكنها لم تجد سوى الحديد والحرارة والصمت.

أي ذنب حملته طفلة كي تدفع ثمن نظام يغط في نومه؟ أين كانت الأعين والضمائر؟ كيف غابت الرقابة عن التفاصيل التي تحفظ الحياة؟ هذه ليست مأساة عابرة، بل مرآة تعكس وجوهنا جميعا، نحن الذين ألفنا الأعذار حتى نسينا واجبنا.

إن ما حدث لشمة نداء يجلجل في ضمير الوطن: آن لهذا الغياب أن ينتهي، وآن للأمان أن يصبح ثقافة لا شعارا. يجب أن تجهز كل حافلة بأجهزة استشعار تنذر عند بقاء طفل، وأنظمة تتبع تسجل الصعود والنزول، وتدرب الكوادر تدريبا يزرع فيهم الحس قبل المهارة، والضمير قبل الإجراء. فسلامة الأطفال هي التزام وطني لا يحتمل التراخي.

ارقدي بسلام يا صغيرة، فقد تجاوزت حدود الحضور لتصيري يقظة في ضمير وطن كان نائما. أنت النور الذي انطفأ لتُضيئي لنا طريق الحذر، والجرس الذي دوى بعد صمت طويل. ستبقين النبض الذي يذكر كل مسؤول أن الأمان ليس شعارا يرفع، بل حياة تصان، وأن التفاتة واحدة قد تنقذ عمرا بأكمله. نم مطمئنة، فقد استيقظ الضمير بعد طول سبات، وصار وجهك البريء مرآة لا تنسى، تذكرنا أن الطفولة لا تموت إلا حين نموت نحن إنسانا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى