بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عُمان .. حين يتحوّل الحياد إلى قوة ، والدبلوماسية إلى فن للبقاء

الدكتور/ عبدالناصر سلم حامد

كبير الباحثين في “فوكس للدراسات – السويد”
باحث أول في إداره الأزمات ومكافحه الارهاب

 

في منطقةٍ تتغيّر تحالفاتها مع كل أزمة، وتتصاعد فيها لغة القوة على حساب صوت الحكمة، تواصل سلطنة عُمان السير في طريقٍ هادئ يثير الإعجاب قبل التساؤل.

في زمنٍ تضجّ فيه العواصم بخطابات الصراع، تبقى مسقط استثناءً فريدًا؛ لا ترفع صوتها، لكنها تُسمع الجميع بصمتها، وتدير سياستها بخيوطٍ دقيقة من الثقة والاتزان.

منذ مطلع السبعينيات، ومع تولي السلطان الراحل قابوس بن سعيد الحكم، اختارت عُمان طريقًا مختلفًا عن جيرانها. لم تبحث عن أدوارٍ صاخبة، ولم تندفع إلى المحاور، بل تبنّت ما يمكن تسميته بـ«الحياد الفعّال» — حيادٌ لا يقف على الحياد، بل يشارك بصمته في صناعة التوازن.

وفي وقتٍ كانت فيه المنطقة تُدار على قاعدة «مع أو ضد»، قررت عُمان أن تكون «مع الجميع حين يتحدثون، وضدّ الجميع حين يتقاتلون».

خلال الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، كانت سلطنة عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي احتفظت بعلاقاتٍ طبيعية مع طهران، رغم ما تعرّضت له من ضغوط. ذلك القرار الذي بدا غريبًا في حينه، تحوّل لاحقًا إلى رصيدٍ استراتيجي جعل منها قناة اتصالٍ ضرورية في كل ما يخصّ إيران والخليج. ومنذ ذلك الحين، لم تعد مسقط مجرّد عاصمةٍ خليجية، بل عنوانًا للثقة في زمن الانقسام.

تدرك القيادة العُمانية أن النفوذ لا يُبنى بالتحالفات المؤقتة، بل برأس المال المعنوي القائم على المصداقية والاتساق. من هنا وُلدت فلسفة الدبلوماسية الهادئة التي جعلت من سلطنة عُمان نموذجًا نادرًا في الشرق الأوسط؛ دولة لا تفرض رأيًا، لكنها تُفتح أمامها الأبواب حين تُغلق أمام الآخرين.

في عام 2015، كانت مسقط محطة اللقاءات السرّية التي مهّدت للاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، وفي السنوات التالية احتضنت حواراتٍ يمنية – يمنية عندما تراجعت العواصم الأخرى عن المشهد.

أما في 2023، فكانت حاضرة – ولو بصمتٍ محسوب – في التمهيد لاستئناف العلاقات بين السعودية وإيران. كل ذلك تمّ من دون بياناتٍ صاخبة ولا مؤتمراتٍ مُصوَّرة، بل عبر دبلوماسيةٍ تستمد قوتها من هدوئها وثقة الآخرين بها.

في عهد السلطان هيثم بن طارق، الذي تولّى الحكم عام 2020، تمّ تثبيت هذا النهج وإعادة صياغته بلغةٍ أكثر ديناميكية. فقد جعل من “الحياد العُماني” سياسةً نشطة لا مكتفية بذاتها، وأعاد للدبلوماسية الهادئة روحها العملية.

ومنذ سنواته الأولى في الحكم، تحرّكت عُمان في كل الملفات الساخنة من اليمن إلى إيران وفلسطين، لتؤكد أنها لا تكتفي بدور المراقب، بل تمارس دور “الوسيط المسؤول”.

في الملف اليمني، لعبت السلطنة أدوارًا حاسمة في استضافة محادثات غير معلنة بين الحوثيين والمبعوث الأممي، وساهمت في هندسة الهدنة الإنسانية عام 2022. كما شاركت في عمليات تبادل الأسرى والإفراج عن محتجزين أمريكيين وغربيين، في تحركٍ نال إشادة الأمم المتحدة والبيت الأبيض.

وحين تصاعد التوتر في مضيق هرمز عام 2021، كانت مسقط هي القناة الآمنة التي نقلت الرسائل بين طهران وواشنطن، ومنعت انزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة.

وفي عام 2023، دعمت سلطنة عُمان الجهود الصينية لتقريب الرياض وطهران، بعدما كانت قد استضافت لقاءات تمهيدية بين مسؤولين من البلدين.

ومع إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، كانت عُمان من الدول القلائل التي لم تغلق سفارتها في دمشق، في خطوةٍ رآها مراقبون جزءًا من فلسفة السلطنة التي تقوم على “الاحتواء بدل الإقصاء”.

وفي ملفات أخرى، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أدت سلطنة عُمان دورًا إنسانيًا فاعلًا في تسهيل نقل المساعدات وتبادل الأسرى، وأجرت اتصالات مع أطراف أوروبية لتثبيت الهدنة في غزة خلال 2024 – 2025.

بهذا المعنى، تحوّل الحياد العُماني في عهد السلطان هيثم إلى أداة فعّالة لإدارة الأزمات؛ لا مجرد موقف أخلاقي.

وقد وصفت تقارير Chatham House وIISS في 2025 السلطنة بأنها “الوسيط الأكثر قبولًا في الخليج والبحر الأحمر”، بينما وصفتها رويترز بأنها “صوت العقل الأخير في الشرق الأوسط”.

وإلى جانب البعد السياسي، أطلق السلطان هيثم سلسلة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية التي أعطت الحياد بعدًا عمليًا جديدًا. فقد خفّض الدين العام من نحو 67% إلى أقل من 34% من الناتج المحلي خلال أربع سنوات، وأنشأ هيئة استثمارية مركزية لتوحيد الشركات المملوكة للدولة ضمن إطار شفاف وفعّال. كما وقّع اتفاقيات ضخمة مع الإمارات بقيمة 35 مليار درهم في قطاعات الطاقة واللوجستيات، وجعل من ميناء الدقم مركزًا إقليميًا للنقل البحري والتجارة العالمية، لتتحول الجغرافيا العُمانية إلى رأسمال سياسي واقتصادي في آنٍ واحد.

ومن خلال رؤية عُمان 2040، تواصل السلطنة توظيف التنمية كامتدادٍ للدبلوماسية. فالمشروعات الكبرى مثل الدقم وصلالة وصُحار لم تعد مجرد بنية تحتية، بل أدوات دبلوماسية تعزّز مكانة السلطنة كممرّ آمن للتجارة الإقليمية والدولية.

إنّ سلطنة عُمان في هذا الإطار تمارس شكلاً جديدًا من الحياد المنتج، الذي يربط بين الاقتصاد والسياسة، ويجعل من الاستقرار الداخلي أداة نفوذ خارجي.

يصعب فهم السياسة الخارجية العُمانية من دون العودة إلى الهوية الثقافية للمجتمع نفسه. فالعمانيون يؤمن بالاعتدال والتسامح ورفض الغلوّ، وهذه القيم انعكست على السلوك السياسي للدولة التي ترى في الحوار واجبًا لا خيارًا.

وعبر التاريخ، كانت سلطنة عُمان دولة بحرية منفتحة على الهند وشرق أفريقيا واليمن وإيران، وتعلمت من البحر معنى التنوّع والتبادل والتوازن.

لذلك حين تمارس سلطنة عُمان الحياد اليوم، فهي لا تفتعله، بل تُجسّد جزءًا من شخصيتها التاريخية التي ترفض الانغلاق والتصادم. الثقافة السياسية في عُمان هي الامتداد الطبيعي لثقافتها الاجتماعية : هدوء في المواقف، وتدرّج في القرارات، وحذر من الانفعال مهما اشتدت العواصف.

وقد عزز السلطان هيثم هذا الاتزان بتحديثٍ تشريعي شامل : إعادة هيكلة الجهاز الإداري، إصدار قانون جديد للقضاء يضمن الاستقلالية، وإرساء نظام ولاية العهد لأول مرة في تاريخ عُمان، ما يضمن استقرارًا دستوريًا طويل المدى. كل ذلك ترافق مع انفتاحٍ محسوب على الإعلام والمجتمع المدني، في سياق إصلاحٍ هادئ لكنه عميق الجذور.

بذكاءٍ محسوب، تمكّنت مسقط من الحفاظ على علاقاتٍ متوازنة مع الشرق والغرب في آنٍ واحد. فهي ترتبط بعلاقاتٍ وثيقة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، دون أن تقطع جسور التعاون مع الصين وروسيا والهند. هذا التنوع في الشركاء مكّنها من حماية قرارها الوطني من أي ابتزازٍ سياسي أو اقتصادي، وجعلها واحدةً من أكثر الدول الخليجية استقلالًا في سياساتها الخارجية.

وفي وقتٍ اندفعت فيه بعض العواصم إلى سباقات النفوذ، ظلّت عُمان تذكّر بأن الحكمة ليست ضعفًا، وأن الاعتدال يمكن أن يكون استراتيجية بقاء. من خلال هذا الاتزان، أصبحت السلطنة وسيطًا موثوقًا لدى الجميع – دولة تحظى بالاحترام حتى من خصومها.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت مسقط في توسيع دبلوماسية الحياد باتجاه فضاءاتٍ جديدة تتجاوز الخليج إلى البحر الأحمر والقرن الأفريقي. ففي ظل التنافس الدولي على الموانئ والممرات البحرية، عملت سلطنة عُمان على تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في شرق أفريقيا واليمن والسودان، بما يضمن أن يكون ممرّ باب المندب وخليج عدن امتدادًا طبيعيًا لرؤيتها الأمنية القائمة على الحوار لا المواجهة.

وفي هذا الإطار، جرى فتح قنوات تعاون مع الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا والصومال، وتكثيف التنسيق مع السعودية ومصر بشأن الملاحة والأمن البحري، بما يعكس رغبة عُمان في تحويل البحر إلى مساحة استقرارٍ لا صراع. إنها بذلك تعيد صياغة مفهوم “الحياد الإقليمي” ليشمل البحر والمحيط، لا الحدود فقط – أي حياد استراتيجي يحمي المصالح المشتركة ويفتح آفاقًا جديدة للشراكة بين الخليج وأفريقيا.

يمكن تلخيص التجربة العُمانية في ثلاث ركائز تمثّل سرَّ قوتها : الثقة، الهدوء، والمرونة.
الثقة هي رأس المال الأثمن الذي راكمته السلطنة عبر نصف قرنٍ من المصداقية والاتساق. والهدوء هو أسلوبها في إدارة الخلافات دون انفعالٍ أو خطابٍ صدامي. أما المرونة، فهي قدرتها على التحرك بين التناقضات دون أن تفقد بوصلتها الوطنية. بهذه الأدوات، صنعت سلطنة عُمان ما يمكن تسميته بـ«القوة الخليجية الهادئة» – قوة لا تقوم على الجيوش، بل على الثقة والاتزان والاستمرارية.

في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات وتتشابك فيه المصالح، تواصل سلطنة عُمان إثبات أن السياسة ليست سباقًا في الضجيج، بل فنّ البقاء في العاصفة دون أن تفقد توازنها. لقد جعلت من الحياد قوة، ومن الصمت لغة نفوذ، ومن الواقعية الأخلاقية مبدأً ثابتًا في عالمٍ تغيّر أكثر مما ينبغي.

حين تتحدث القوى بلغة السلاح، تتحدث مسقط بلغة الحكمة. وحين تغيب الثقة بين الخصوم، تكون هي الجسر الذي يُعيد بناءها.

وفي عالمٍ يتناقص فيه العقل، تظل عُمان تذكّرنا بأن العقلانية ليست ضعفًا، بل شجاعة نادرة.

إنها الدولة التي بنت مكانتها بالصبر لا بالمغامرة، وبالاحترام لا بالهيمنة، وبالاستمرارية لا بالمفاجآت. وهكذا أثبتت أن في السياسة، كما في البحر، التيار الأعمق هو الذي لا يُرى على السطح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى