أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

الفـوضى الخلّاقة وسـقـوط الدولة الوطـنية..

الإعـلامي/ زاهر بن حارث المحروقي

 

الفـوضى الخلّاقة وسـقـوط الدولة الوطـنية..

 

لا يمكن لأيّ مخطط أجنبي أن ينجح لزعزعة استقرار أيّ بلد، إذا كانت الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة ويسود العدل المجتمعات، وينعم المواطنون بالحرية، ويستمتعون بخيرات بلدانهم سواسية، مع محاربة حقيقية للفساد والمفسدين، الذين استأثروا بخيرات الأوطان لصالحهم فقط على حساب الأغلبية.

هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، وقد قادت كثيرًا من المهتمين بقضايا الأوطان إلى طرح «الربيع العربي» للنقاش، وكان ممّا طُرح : هل هذا الربيع مؤامرة أجنبية ؟، أم أنه نتيجة منطقية للأوضاع السيئة التي يرزأ تحت وطأتها المواطنون؟.

للإجابة عن السؤال يجدر بنا أن نعرف مصير الدول التي قام بها هذا الربيع، هل هي أفضل حالًا من قبل أم هي أسوأ؟ وماذا استفاد المواطنون من ذلك الربيع ؟ وهل هناك دولة وطنية قائمة في هذه الأوطان؟.

أرى أنّ ما حدث من هذا «الربيع»، ما هو إلا مخطط مرسوم بدقة، لتدمير ما تبقّى من قوة الوطن العربي، بإضعاف الدول الرئيسية فيه. وما ساعد على إنجاح ذلك المخطط هو الأوضاع السيئة للمواطنين في الوطن العربي. ولولا ذلك لما نجح المخطط الذي طُبخ بنار هادئة منذ فترة طويلة حتى تم الإعلان عنه رسميًا في أبريل عام 2005، أيّ قبل خمس سنوات من «إطلاق» الربيع، عندما أدلت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بحديث صحفي مع جريدة «الواشنطن بوست» الأمريكية، عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والبدء بتشكيل ما يُعرف بــ «الشرق الأوسط الجديد»، عبر نشر «الفوضى الخلاقة» في المنطقة، وهو ما سبق أن بشّر به الرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز في كتابه الذي حمل الاسم نفسه «الشرق الأوسط الجديد».

وللأسف فإنّ هناك مسؤولين عربًا تلقفوا الفكرة ونادوا بها من غير أن يعوا نتائجها الكارثية على الوطن العربي، وقد يكونوا واعين، لكنهم كانوا عرّابين للمشروع الصهيوني.

أتت كونداليزا رايس بمصطلح «الفوضى الخلاقة» من الأدبيات الماسونية القديمة؛ فالكاتب الأمريكي دان براون يذكر أنه «ورد ذكر الفوضى الخلاقة في أكثر من مرجع ماسوني، إلا أنه لم يطْفُ على السطح إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق، في تصريح كوندوليزا رايس، حيث انتشرت بعض فرق الموت ومنظمات إرهابية مثل شركة بلاك ووتر الأمنية». وماذا كانت النتيجة؟!!.

كان العراق أول الضحايا؛ فبدلًا من الديمقراطية التي وعدت بها أمريكا الشعب العراقي، إذا العراق يعود إلى الخلف عقودًا من الزمن، وإذا الوطن الموحّد يصبح أكثر من وطن، وانتشر الفساد، وطفت على السطح الخلافات المذهبية، ووصل الأمر ببعض العراقيين أنفسهم قبل غيرهم أن يروا أنّ العراق أصبح محتلًا من قبل إيران، وفي المحصلة النهائية البكاء على الرئيس صدام حسين وعلى حكمه – رغم أخطائه – لأنّ البديل كان سيئًا. وما حصل في العراق حصل في ليبيا وسوريا والسودان واليمن وتونس؛ فلا استفاد المواطنون من تضحياتهم ولا بقيت لهم دولة وطنية، فقد تبخرت أمنيات الشعوب في الحرية والعدالة والديمقراطية، بل إنّ كرامة الإنسان نفسها أهينت في أكثر من قُطر، ورأينا القبضة الحديدية في أكثر من دولة من الدول التي اندلعت بها الثورات. والأغربُ من ذلك أنّ تلك القبضة وصلت إلى دولٍ (يبدو أنها) مستقرة، لكن الخوف جعلها تشدّد من تلك القبضة، فيما ذهبت دولٌ أخرى إلى فتح مجال التفسخ الأخلاقي لإشغال الشباب عن أيّ مطالبات مشروعة، وفي النهاية فإنّ النتائج النهائية لهذا الربيع، هي بروز خلافات في أكثر من بلد، تحمل صبغة سياسية ودينية وطائفية وعرقية وقبلية؛ وهي كلها قنابل تنتظر إشعال فتيلها فقط لتنفجر، لتقود الأمة العربية إلى المزيد من الضعف والتشرذم والتشتت على حساب العدو التاريخي للأمة، الذي استفاد من الوضع بغير إطلاق رصاصة واحدة.

كثيرًا ما ناقشني بعض الأصدقاء ممّن يتكرمون بقراءة ما أكتبه، عن تركيزي على مصطلح الأمة ومفهومي له، وكأنّ في ذلك إلغاءٌ لبعض العرقيات التي تعيش في الوطن العربي. وفي الواقع ذلك أبعدُ ممّا أذهبُ إليه؛ فالوطن العربي يشمل كلّ من يعيش فيه من أيّ عرقية أو قومية، ويجب أن ينضم الجميع تحت لواء الوطن الذي ولد ونشأ وترعرع وعاش فيه، فلا فرق بين أحد أبدًا، ولكن في لحظات ضعف أيّ أمة أو أيّ بلد، فإنّ دعوات كثيرة تنطلق من هنا وهناك عن الاضطهاد، وعن الرغبة في الانفصال، وهذه ضمن الفوضى الخلاقة التي تهدف – ضمن ما تهدف إليه – إلى إنشاء بلدان على أساس عرقي، وهو المخطط الذي يتم تنفيذه حاليًا في أكثر من بلد. ونحن نعرف أنّ صراعات الهوية وكذلك الصراعات المذهبية عادة تكون معقدة ولها جذورها، وقد تستمر طويلا إذا وجدت من يغذّيها، وهم من الكثرة بمكان، وغالبًا ما تجد هذه الصراعاتُ هوىً في النفوس، وعندما تنطلق تكون تسويتها صعبة جدًا.

لا أريد أن أنقل للقارئ تشاؤمي حول مستقبل الأوطان العربية، وهو نفس تشاءم د. حسنين توفيق إبراهيم أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد بدولة الإمارات، الذي أعدّ دراسة عن مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي في ضوء تصاعد صراعات الهوية، ورأى أنّ مستقبل العالم العربي يبدو قاتمًا على الأقل خلال الأجلين القصير والمتوسط، إذ يتنازعه سيناريوهان كبيران؛ ينطلق أولهما من استمرار الصراعات والحروب الداخلية وحالة التفكك والتمزق التي تعاني منها دولٌ عربية كبيرة مثل سوريا والعراق واليمن.

ويأتي ثانيهما، من عدم التوصل إلى شروط التسوية في أيّ من الحالات المذكورة، ممّا يعني استمرار ظاهرة غياب الدولة الوطنية والهويات الممزقة والمتصارعة في هذه البلدان.

كما رأى أنّ دولًا عربية أخرى عديدة ستعاني من الضعف، وتعيش على وقع أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية حادة ومتزامنة، قد تفضي إلى احتجاجات اجتماعية واسعة.

وأنا أقرأ سيناريوهات د. حسنين توفيق عن المستقبل أتساءل : إزاء ما حدث في الوطن العربي من فوضى خلاقة، فما فائدة الصيحات التي انطلقت في بلدان الربيع العربي مطالبةً بإسقاط النظام، طالما كان البديل هو إنتاج أنظمة فاسدة ومستبدة، وإذا كان البديل هو تدمير الدولة الوطنية مثلما حصل في أكثر من بلد ؟! وما معنى أن تحل دولة الاستبداد مكان دولة استبداد أخرى، وكأنّ الهدف هو تغيير الوجوه فقط ؟!.

ولكني أستطيع أن أزعم أنّ الديكتاتوريات القديمة كانت وطنية رغم كلّ أخطائها، وأما من يتزّعم الأوطانَ العربية حاليًا من مخرجات الربيع العربي فهم في غالبيتهم يحملون جوازات غربية ومنها أمريكية، ولا غرابة – والحالة هذه – أن يبكي المواطنون العرب على «جلّاديهم» السابقين، ولسان حالهم يقول : «رحم الله النبّاش الأول»؛ وهذا واضحٌ في العراق واليمن وليبيا والسودان وحتى تونس وغيرها من البلدان؛ فالمؤلم في الأمر أنّ التفضيل صار بين السيئ والأسوأ، وليس بين السيئ والجيد.

أمام الوضع القائم حاليًا في الوطن العربي، لا يمكن مواجهة مخاطر انهيار الدولة الوطنية العربية، إلا بمنظور الأمن القومي العربي بشموليته.

ويرى د. عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية والباحث بجامعة ستانفورد، أنه لا يمكن لأيّ بلد عربي أن يضطلع بهذه المهمة بمفرده؛ فتحقيقُ الأمن القومي، هو حاصل تفاعل خلّاق ومثمر بين جميع البلدان العربية، والهدف هو التصدي لكلّ المعوقات والمخاطر التي تهدّد الدولة الوطنية، ولكن ما شاهدناه هو عكس ما نادى به د. حمزاوي؛ فبعضُ البلدان العربية ساهمت في احتلال وتدمير وحصار أوطان عربية أخرى، وكأنّ هذه الدول كيانات تؤدي وظيفتها فقط لصالح من تأتمر بأمره.

أنا لا ألوم مَن شكّك في نتائج الحراك الشعبي وجدواه في الوطن العربي؛ فالنتائج واضحة للعيان، ولا تحتاج إلى كثير عناء لشرحها؛ ولكني أتعاطف مع كلّ من تحمّس لذلك الربيع، معتقدًا أنه التغيير المطلوب، وأنه الخلاص من الظلم (وقد كنتُ منهم)؛ فأبرز النتائج التي تحققت هي انهيار الدولة الوطنية في أكثر من بلد، وعجز مؤسساتها عن الاضطلاع بواجباتها الأساسية، ويستر الله على القادم.

* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً عن جريدة عمان؛ عدد الاثنين 13 مارس 2023م..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى