أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

مع كتاب «الله» .. للدكتور مصطفى محمود..

زاهـر بن حارث المـحـروقـي

إعلامي، وكاتب عماني مهتم بالشأن العربي، ومؤلّف كتاب «الطريق إلى القدس»

 

مع كتاب «الله» .. للدكتور مصطفى محمود..

 

الدكتور مصطفى محمود -رحمه الله- ظاهرة فريدة؛ إذ جمع بين الأدب والطب والفلسفة والفكر والتصوف، ألّف تسعة وثمانين كتابًا، في العلم والدين والفلسفة والاجتماع والسياسية، بالإضافة إلى الحكايات والروايات العلمية والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة. وقدّم أيضًا أربعمائة حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير «العلم والإيمان».

وقد سُعدتُ كثيرًا بهدية أخي سيف بن سعود المحروقي الذي أهداني جزءا كبيرًا من إصدارات مكتبة مصر ودار مصر للطباعة والنشر، التي أصدرت اثنين وثمانين كتابًا من كتب الراحل؛ منها كتاب «الله»، -الذي نحن بصدده في هذا المقال- في مائة وست وعشرين صفحة من القطع الصغير في أربعة فصول؛ الأول «الله في الإسلام»، يتحدّث فيه عن الذات الإلهية وصفاتها ومعاني أسماء الله الحسنى ومفهوم التوحيد في الإسلام.

والفصل الثاني «الله في العبادات منذ فجر التاريخ»، يتحدّث فيه عن نشأة الأديان وبداية بحث الإنسان البدائي عن إله، وتوجهه إلى عبادة قوى الطبيعة، من شمس وقمر وبحر وحجر وبعض الحيوانات، ثم توحيد الآلهة في إله واحد، ثم اتباع منهج الأنبياء والرسل في الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، أما الفصل الثالث «الله عند أهل العلم والفكر»، فيعرض فيه آراء العلماء والفلاسفة وعقيدتهم في وجود الله، وكيف اهتدوا إلى وجود خالق للكون سواء من تجاربهم العلمية أو تأملاتهم الفلسفية، وفي الفصل الرابع والأخير بعنوان «الله عند الذين أنكروه»، فيناقش آراء الملحدين ومنكري وجود الله وفساد معتقداتهم المبنية على مادية الكون دون وجود خالق له.

وإذا كانت فصول الكتاب كلها مهمة، إلا أني أعتقد أنّ الفصل الأول «الله في الإسلام» هو الأفضل على الإطلاق، وفيه قدَّم مصطفى محمود شرحًا لكل اسم من أسماء الله الحسنى، إذ ينقلك من اسم لآخر مع شرح مبسط لكنه عميق، يجعل القارئ يعيش لحظات مع عظمة الله الخالق سبحانه وتعالى، من خلال معرفة صفات الكمال والجلال والعظمة التي يتصف بها الخالق العظيم ويتعالى بها على كلّ مخلوقاته.

ويقول مصطفى محمود: «والإنسان لكي يصل إلى الله لا بد أن يتخطى العالم المادي، ثم يتخطى نفسه، ثم يتخطى حدود عقله، فهو في هجرة دائمة ويقظة وانتباه، يخشى أن يغفل لحظة واحدة، فيُضرب على عينيه حجابٌ من تلك الحجب، يبعده عن محبوبه.. خالقه، الذي جعله قبلة أسفاره وهدف رحلته».

ويقول «إنّ «الله» هو الاسم الأعظم الذي تكون به شهادة لا إله إلا الله، وهو الذي ليس له ضد ولا ند، وكما أنّ هذا الاسم لا يمكن الاشتراك فيه، فلا يمكن أن نقول هذا الله، كما نقول عن الأفراد هذا حليم وحكيم وغيره».

في الصفحة الثلاثين من الكتاب ينزّه المؤلفُ الله سبحانه وتعالى تنزيهًا يليق به بعيدًا عن التجسيم، وبعيدًا عن الحلول في الزمان والمكان، فيقول: «وهو العلي علو المرتبة لا علو مكان، كما يعلو العقل على الشهوة، وكما تعلو البصيرة على العقل، وكما تعلو الغاية على الوسيلة، وكما يعلو الحلم على الغضب… لا رتبة فوق رتبته، وحينما نقول إنه فوق العرش (ومعلوم أنّ العرش هو أكبر ما خلق من الأجسام والأجرام) فإنما نعني بهذا أنه متعال في رتبته عن كلّ ما هو جسد، ولا نعني أنه يجلس على العرش جلوس ملك، أو أنه فوق العرش بالمعنى المكاني؛ فعلو الله علو معنى وعلو مرتبة، وليس علوًا مكانيًا، فهو منزه عن الزمان والمكان».

وفي شرحه لاسم «القدوس» يقول: «إنّ الله القدّوس المنزّه و المبرأ من كلّ وصف نتصوره بخيالنا، أو يسبق إليه وهمُنا، وهو ليس منزهًا عن صفات نقصنا، بل هو منزه عن صفات كمالنا، لأنّ كلّ ما يخطر لنا من صفات كمالنا هو نقص بالنسبة إلى ذاته. والكلام عن «القدوس» بأنه المبرأ من العيب هو كلام قريب من سوء الأدب، والحق أن نقول إنه المبرأ عن جميع ما يخطر لنا من صفات بما فيها صفات كمالنا. والتقربُ إلى الله بهذا الاسم يكون بأن تتجرد النفس من جميع حظوظها، فلا تسعى إلى شهوة ولا تنقاد لغضب ولا تجري وراء مال ولا لمتاع أو طعام أو ملبس أو ملمس أو منظر، ولو عرضت لها الجنة ونعيمها لانصرفت عنها مشتاقة إلى خالقها، لا يقنعها من الدار إلا رب الدار.. وبقدر عظم المطلب تكون عظمة النفس».

يشرح مصطفى محمود قول ابن عطاء الله السكندري: «المعرفة رؤية لا علم.. وعينٌ لا خبر.. ومشاهدةٌ لا وصف.. وكشفٌ لا حجاب.. وإحساسٌ لا مجادلة»، فيقول إنّ السكندري «يقصد هذا النوع من الرؤية، هو ألا ترى فيما ترى إلا الله وأفعاله وما يجري به قضاؤه، فإذا شربت فأنت تشرب من يد الله وليس من الكوب، وإذا احترقَتْ يدُك فالله هو الذي أحرقها وليست النار؛ فالذي أودع في النار خاصية الإحراق هو الله، والذي أودع في الماء خاصية الإرواء هو الله؛ فهو الذي يسقي وهو الذي يحرق».

وفي الصفحة الستين من الكتاب يقول: «والزاهد المُوحّد لا يقول أنا ولا يقول أنت.. ولا يقول هم.. ولا يقول نحن.. وإنما يقول: هو.. لا يرى إلا هو.. ولا يقصد إلا هو.. لا إله إلا هو.. لا يخشى إلا هو.. ولا يتقي إلا هو.. ولا يرى فعلا إلا يرده إليه هو.. ولا يرى ظاهرًا ولا باطنًا إلا هو.. فإذا أكل فهو يأكل من يده هو.. وإذا شرب فهو يشرب من كفه هو.. وإذا تلقى الرزق فمنه هو.. وإذا تلقى الحرمان فبتقديره هو.. وإذا قضى عليه بالشقاء فبقضائه هو.. فإذا صبر فهو يصبر بالله على الله.. وإذا هرب فهو يهرب من الله إلى الله.. وإذا استنجد فإنما يستنجد بالله على قضاء الله.. وإذا استعاذ فإنما يستعيذ بالله من الله.. يستعيذ به من بلائه.. وما الشيطان في النهاية إلا ابتلاء الله لعباده، وما الكون إلا مظاهر أسماء الله وتجليات صفاته وأفعاله.. فهو لا يرى في أيّ شيء إلا الله وفعل الله، وهذا مطلق التوحيد.. وهذا غاية ما تقوله الأسماء لقلب المسلم.. أن تقوده لمطلق التوحيد».

ومن جميل ما كتبه: «الله هو (الملك) المطلق على جميع الأكوان.. المستغني في ذاته وصفاته عن كلّ موجود؛ بينما الكلّ في حاجة إليه.. من الذرة إلى المجرة، فهو الذي يمسك كلّ شيء بقوانينه ويدبّر كلّ شيء بحكمته. والإنسان ملك صغير.. جنوده شهوته وغضبه وهواه، ورعيته لسانه وعيناه ويداه، إذا ملكها ولم تملكه وأطاعته ولم يطعها، نال درجة الملك في عالمه الصغير (جسده) فإذا اتسع ملكه استطاع أن يستغني عن الناس كلهم، بينما احتاجوا هم إليه.. وأصبح الملك في العالم الأرضي وتلك رتبة الأنبياء، ولكنه أبدًا مفتقر إلى الله لا يخطو ولا يتنفس ولا يحيا إلا بمدد من الله».

في كتابه «الله»، يعطي مصطفى محمود رحمه الله عصارة تجربة صوفيّة روحانية تأمليّة، تلك التجربة الصوفية التي تعتمد على العقل، وليست التي تعتمد على الرقص، وتجعل الإنسان يهتم بلبس الخرق ويهتم بالكرامات فقط؛ ففصولُ الكتاب الأخرى هي عبارة عن بحوث علمية عن الله سبحانه وتعالى منذ فجر التاريخ وعند أهل العلم والفكر، وكذلك فإنّ فصل «الله عند الذين أنكروه» فهو فصل يعتمد على العقل في تفنيد ورد شبهات منكري الله.

والعقلُ الذي قصده المؤلف غير العقل الذي اتجه إليه الفيلسوف أوجست كونت الذي آثر الانصراف عن عجز العقل عن إدراك الحقائق النهائية أو كشف كنه الله، فنصح بالاكتفاء بما يعطيه العلم من تقدم ووسائل تكنولوجية لإسعاد الإنسان، ويكفي الإنسان -حسب كونت- أن يعكف على هذا الجانب الممكن يُتقن علومه واختراعاته ويطوّرها لصالح حياته ولا يضيّع الوقت في تأمل الله وأسراره.

ويرد مصطفى محمود على ذلك أنّ «ما لا يُدرك بالعقل والمنطق الجدلي، هناك وسائل أخرى لإدراكه؛ فالإنسان لم يوهب المنطق وحده، ولكنه وُهب البصيرة الكاشفة والوجدان الملهم، ولقد أدرك تلك الحقيقة ذلك الصوفيّ الذي تتفتح بصيرتُه فيدرك من الحقيقة الإلهية ما يجعله يغيب عن عالم الظواهر، ويغيب عن نفسه ويستغني بقربه من الله عن كلّ شيء، مثل هذا الإدراك الرفيع من ذلك الصوفي لا يمكن إنكاره بإشاحة اليد لمجرد أنّ المُلحِد عاطل عنه، فليس من حق الأصم أن ينكر الأصوات، ولا الأعمى أن ينكر نور الشمس لمجرد أنه لا يراه». وينكر مصطفى محمود تلك الصوفية التي تنادي بإهدار العقل وتمجد الفقر والشحاذة ولبس الخرق على أنها الطريق إلى الله، ويصفها بأنها «انحراف بالدين وبالطريق».

لكلّ من أتعبته الدنيا، ولكلّ من يبحث عن السكينة، عليه أن يقرأ كتاب «الله»، وعليه أن يعيش لحظات نورانية تجعله يحلق بعيدا في الملكوت مع فصل «الله في الإسلام» مع ذلك الشرح المبسط -لكنه عميق- لأسماء الله الحسنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى