أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

وجهة نظر يابانية عن العرب!!..

الإعـلامي/ زاهـر بن حارث المحـروقي

كـاتـب و بـاحـث

 

وجهة نظر يابانية عن العرب!!..

 

من الكتب التي لا أملّ العودة إليها بين فينة وأخرى، كتاب «العرب من وجهة نظر يابانية»، للكاتب والأستاذ الجامعي والمترجم للأدب العربي إلى اللغة اليابانية نوبوأكي نوتوهارا، وقد نال هذا الكتاب اهتمامًا واسعًا منذ صدوره، إذ كتب عنه كثيرون، لأنه تناول المجتمعات العربية بالدراسة والتحليل. وسبق لي أن تناولتُه في كتابي «لولا الكتب» الصادر عن مؤسسة عُمان للصحافة والإعلان والنشر، ضمن سلسلة كتاب نزوى، واستشهدتُ به مؤخرًا في مقالي بهذه الجريدة الأسبوع قبل الماضي: «هل العقل العربي فارغ»، ما جعل عددًا من القراء يتساءلون عنه، وهو ما دفعني للعودة إليه مجددًا.

في هذا الكتاب سبق نوتوهارا أحداث ما سمي بالربيع العربي بسبع سنوات تقريبًا، عندما قدّم تحذيرًا قويًا للعرب بأنهم إذا لم يُسرعوا إلى الإصلاح، فإنّ الأوضاع ستنفجر في كلّ مكان، وخص بالذكر مصر التي عاش فيها فترة من الزمن، وسوريا التي زارها كثيرًا. يقول إنه زار القاهرة عام 1984م بعد غياب عشر سنوات، واكتشف توترًا شديدًا يغطي المدينة كلها؛ فالناس يمشون وكأنّ شيئًا ما يطاردهم؛ وجوهٌ صامتة، وطوابير طويلة من الواقفين أمام الجمعيات ومواقف الحافلات وغيرها، ويقول إنه رأى الحافلات المكتظة تجري، بينما يتعلق الركاب بالشبابيك والأبواب، وينسى كثير من الرجال والنساء الأسلوب المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام. ويصل إلى الاستنتاج أنّ «التوتر يغطي الشارع؛ توترٌ تتوقع أن ينفجر في أيّ لحظة، وهذا التوتر يجعل الناس يتبادلون نظرات عُدوانية، ويزيد توترَ المدينة نفسها أكثر فأكثر»، وحدث ذلك الانفجار فعلا عام 2011م ليس في مصر وحدها، بل في العديد من الأوطان العربية، وما زال مرشحًا للانفجار.

عاش المؤلف في بلاد العرب قرابة أربعين عامًا، وغاص في أعماق مجتمعاتنا، وعرف خبايا الشخصية العربية، فظهر في كتابه كالطبيب الذي استطاع أن يشخّص الداء ويترك مسألة العلاج للآخرين. وقد تحققت تحذيراته، لأنه نظر إلى الأوضاع العربية بعين المراقب المقارن بين التجربة العربية واليابانية.

يرى نوتوهارا أنّ المجتمع العربي يعاني من مشاكل أساسية هي القمع، وغياب العدالة الاجتماعية وعدم المساواة أمام القانون، وهذا أدى إلى غياب المسؤولية العامة، حيث يُتلِف المواطنون المَرافق العامة أو يسيئون استخدامها، لشعورهم بأنها لا تخصهم وأنها أملاك غيرهم، ويرى أنّ بغياب العدالة الاجتماعية وسيادة القانون على الجميع بالتساوي فعلَ الناسُ كلّ شيء، وتعرضت حقوق الإنسان للخطر؛ ولذلك أصبح الفرد هشًا وساكنًا بلا فعالية، لأنه يعامَل دائمًا بلا تقدير لقيمته كإنسان، «ومن هنا انتشرت بين الناس شريعة الغاب، وأصبح القويّ يأكل الضعيف»، ويتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ أيّ كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة الواضحة، فإنّ حديثه لن يكون جدِّيًّا ولا مفيدًا.

كما يرى الكاتب الياباني أنّ المجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد، والقيمة الواحدة، والدين الواحد وهكذا؛ فيحاول الناس أن يوحّدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآراءهم، وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين، ويغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل مكانه فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد، فيحاول الفرد أن يميّز نفسه بالنسب أو الثروة أو المنصب أو الشهادة العالية في مجتمع يغيب فيه الوعي بالمسؤولية، فالقانون لا يحمي الناس من الظلم لأنه مخترق. ويقدّم العديد من الأمثلة التي تؤكد أنّ «القمع هو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية»، ويستغرب من خوف الناس من رجال الأمن، وامتعاضهم من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي الذي يتمتعون به، ويرى أنّ غير المفهوم هو الاحترام الكاذب الذي يُظهِره أولئك الناس لرجال الأمن، والكرم الباذخ في المآدب التي يقيمونها لهم، وأنّ تلك الازدواجية سببُها الأول والأخير هو القمع والخوف الثابت من بطش السلطة والمسؤولين.

وإذا كنتُ قد أشرتُ في أكثر من مقال أنّ المعارضات العربية أسوأ من الأنظمة القائمة، فإنّ الكاتب – رغم معارضته لمصادرة حق الآخرين في التعبير – إلا أنّ رأيه في المعارضة العربية لا يختلف عما ذهبتُ إليه، إذ يقول: «إنّ المعارضة في البلدان العربية هي في حقيقتها سلطة ضد سلطة، أو سلطة مضادة تطمح للسيطرة على الحكم، دون أن تقدّم مشروعًا مغايرًا لمشروع الحكم المسيطر.

ففكرة التأبيد لا تقتصر على رجال السلطة وإنما تشمل قادة الأحزاب التي يفترض أنها في المعارضة التي ينبغي أن تحمل مشروعًا مناقضًا لمشروع السلطة القائمة ومختلفًا عنه، وإلا فإنّ المعارضة تصبح سلطة تنتظر دورها في السيطرة على الحكم استلامًا يؤبد المشروع السائد»، ولم يخْلُ الكتاب من المواقف الطريفة في ظاهرها ولكنْ العميقة في دلالاتها، منها قوله: «مرةً كنتُ أستمع إلى حوار لطالب مصري يتحدث عن تجربته في اليابان ومشاهداته، فتحدّث عن المواصلات في طوكيو، وعن تنظيمها ودقة مواعيدها، وقارن بينها وبين المواصلات في مصر، عندئذ قال الطالب معلقًا: لا بد أن نتعلم من تجربة اليابان، لا بد أن نغير كلّ نظامنا؛ فجأة قاطعه المذيع قائلا: الكلام عن تغيير النظام غير مسموح به. عندئذ التفتُّ بدوري إلى كلمة “نظام” وتذكرتُ كم هي حساسة وخطرة».

ويندهش نوتوهارا في كتابه أنّ «الإنسان العربي يعتقد أنّ الحقائق كلها جاهزة في القرآن الكريم، ولا داعي للتفكير والبحث عن الحقائق؛ لذلك يأتي بحقائق الماضي ويفكر فيها مرة أخرى، ولا يحاول التفكير في حقائق أخرى والمتغيرات التي حدثت في العالم منذ نزول القرآن الكريم»، ويقول إنه في العالم العربي يستنتج الشخص أفكاره من خارجه، بينما في اليابان يستنتج الناس أفكارهم من الوقائع الملموسة التي يعيشونها كلّ يوم، وهو يقول: «في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد، أما الأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة فيظلون أفرادًا فقط ولا يشكلون تيارًا اجتماعيًا يؤثر في حياة الناس». وأشير هنا إلى أنّ نوبوأكي نوتوهارا في هذه النقطة لا ينتقد القرآن الكريم، بل ينتقد الجمود الذي أصاب المسلمين حتى تأخروا عن الركب. ولتأكيد فكرته تلك يسرد قصة زميله المصري في جامعة طوكيو د.علي حسن السمني الذي يصفه بأنه كان مسلمًا متدينًا مستقيمًا، ينفذ ما جاء في القرآن الكريم في طعامه وعلاقاته وحياته العامة والخاصة، حيث ذهبا معًا إلى مدينة «كيوتو» وزارا معبدًا قديمًا مشهورًا هو معبد «الباجودا» ذو الطبقات الخمس الجميلة للغاية، وعندما رأى د. السمني ذلك الجمال الأخاذ، عبّر عن إعجابه قائلا: «ما شاء الله، لقد بنى الله هذا البناء»، فقال له: «هذا البناء شيّده أجدادنا اليابانيون»، ولكنه نفى ذلك بشدة، وقال بيقين قاطع: «كلّ شيء جميل أو عظيم هو من خلق الله»، وهكذا استسلم نوتوهارا وصمت. ويحكي الكاتب موقفًا آخر بينهما: «مرة كنت أقرأ رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، وعندما رآني سألني: لماذا تقرأ روايات تافهة، ولماذا لا تقرأ القرآن الكريم؟ فكلُ شيء مهم للبشر موجود في القرآن، إقرأ القرآن، لأنّ كلّ الكتب التي كتبها البشر تافهة. طبعًا استمعتُ إليه باحترام، ولكني سألت وأسأل: إلى أين يؤدي التدين بالمسلم العادي أو غير العادي، المسلم الذي يمارس حياة التدين كلّ حياته إلى أين يصل»؟ ويقول: «لقد تابعتُ حياة ذلك الصديق رحمه الله أكثر من عشرين سنة، وكان في مكانه لا يتقدم. لقد بقيَت حياته وأفكاره ثابتة لا تتغير ولا تتقدم، هل هي صورة مسلم فرد؟ أو صورةٌ للمسلم المتدين؟. والسؤال أين وصل بعد كلّ ذلك»؟.

عن المقارنة بين العرب واليابانيين وأسباب نجاحهم، يحكي الباحث الياباني أنّ الكاتب يوسف إدريس كان يتساءل دائمًا عن سر نهضة اليابان وتحولها من بلد صغير معزول إلى قوة صناعية واقتصادية، إلى أن حدث مرة أن راقب عامل نظافة فيما هو عائد إلى فندقه في منتصف الليل يعمل وحيدًا، وعندما راقبه وجده يعمل بجد ومثابرة من دون مراقبة من أحد، وكأنه يعمل على شيء يملكه هو نفسه، عندئذ عرف سر نهضة اليابان؛ إنه الشعور بالمسؤولية النابعة من الداخل من دون رقابة ولا قسر، إنه الضمير، وعندما يتصرف شعب بكامله على هذه الشاكلة عندها يمكنه أن يحقق ما حققته اليابان، وهذا ما يفتقده العرب.

كتاب «العرب وجهة نظر يابانية» من الكتب المهمة التي تناولت العقلية العربية، وبين دفتيه رسائل كثيرة وهامة لأجل الإصلاح، وكان منطلقه الغيرة وليس العنصرية، ورغم صغر الكتاب، إلا أنه يشدّ القارئ من الغلاف إلى الغلاف.

* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً عن جريدة عُمان ؛ عدد الاثنين 18 سبتمبر 2023م..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى