أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

ذَرْف بين حنين رحومية وجوار الصمت!!..

الكاتب/ سالم بن غـنّام الجعفري

 

ذَرْف بين حنين رحومية وجوار الصمت!!..

 

كان انعطاف السيارة بنا أمام القصر الأبيض القديم في بلدة سيحوت بأرض المهرة هو نهاية سفرنا الطويل وبداية رؤية تلك الوجوه الطيبة التى تحدث عنها آباؤنا كثيراً ..وما زاد اشتياقنا كون الذين سنجتمع بهم هم أبناء العمومة (اسم طووويل تجمعنا نهايته بلقب واحد .. الجعفري)..

هكذا كانت الأرواح ما تعارف منها ائتلف .. استقبلتنا أرواحهم وقلوبهم بكل فرح الدنيا بل تماهت مشاعرنا معا وكأننا تجمعنا الدنيا منذ زمن بعيد .. الساحة الإسمنتية الصغيرة في مقدمة بيت (المقدم ) أو الشيخ أتاحت لنا الجلوس مع أربعة من كبار السن وكلمات الترحيب من نوع آخر ، عذبة تدخل إلى القلب بسرورها وتملأ الوجدان سعادة .. بين أبيات الشعر وسرد التاريخ وشيم القبائل وحسن الضيافة سمت أنفسنا نحو عالم آخر ، يشعرنا بترابط قوي يشابه حياتنا حيث نعيش..

بل وكأن الأميال الطويلة لم تبعدنا كثيراً عن موطن عيشنا .. الحديث والعادات وحتى البيوت الصامتة تشعرك أنك بين أهلك وذويك..

سيحوت أو الغيضة الكبرى كما تحلو تسميتها للبعض .. بلد الرجل الحكيم المقدم عمر بن عويض ..عقل السنين الثمانين رسمت على وجهه ابتسامة شابة تفرح كل من يلقاه .. كانت قصة لقاء لا تترجمها كلمات .. ارتسمت كل تقاسيم وجهه في وجداني .. كلماته التى قالها لم تزل تحيا وتعيش بين عقلي وقلبي .. وأمام منزله كانت (رحومية)..

رحلتي الأولى ، إلى أبناء العمومة بن عويض ..ورحلة الى آثار أقدام الأجداد هناك ومحاولة استرجاع صوت النهام الذي تعلو معه أشرعة سفنهم وصوت الأذان من مآذن مسجد ناجم محمد الجعفري و منظر شجرات النخيل تنبئ المسافر عن عمق تشابه المكان والشخوص هنا وهناك ؛ أما خور جفزان فقد تغنوا بها شعراً ورقصوه شرحاً .. ومازال عبق عرق البحارة عالق على بقايا من ألواح السفن القديمة..

للغيضة الصغيرة وسوالف عمي عمر حكايات أخرى .. جعلت من طرقات المكان وآثاره موطن في أرواحنا .. حكاية دونتها أصوات ألسنتهم المرحبة وأصوات بنادقهم الرعدية التى استقبلتنا .. فقد جرت العادة حينما يقدم إليهم عزيز أو من له مكانة عندهم ، إطلاق زغاريد الرصاص..

ثلاثة أيام، نسخة من بعض .. بين كرم الضيافة ولقاء الأحبة من أبناء العمومة وذكريات .. وكان نسب أبناء العمومة قصة من خيال ـ لربما أخذت معظم حديث لقاءاتنا .. (قصة ابن عويض الجعفري النوخذة الذي سافر ولم يعد)..

أعمار الأيام الثلاثة مرت سريعاً لكنها أكسبتنا الكثير من جماليات الحياة ، أسماء نفخر بها وأماكن ما زالت نسمات هواءها عالقة في أذهاننا ومعان خلق لا تنسى وأشياء أخرى لا يشعر بها الجميع لكنها باقية فينا ونقشت في القلوب لتجعلها تحن إليها دوما..

في أذني حديث لراحل اشتاق إلى موطنه الأصلي ونسب أجداده وكانت أمنيته رؤية الأشخرة والعيجة وخور جراما .. وأن يعانق أنسابه..

هكذا كان الحلم البسيط لعمي عمر .. أمنية من الأمنيات الأخيرة .. فكان الوداع موعد للقاء مرتقب..

عام مضى وإذا بهاتف يبشرني .. تعرف من وصل الأشخرة؟ .. لا وكان الجواب الذي لم أتوقعه : العم عمر بن عويض..

كانت فرحتي كبيرة .. تراقصت معها أنفاس الفرح وتهللت أسارير النفس .. إبن غنّام . . هكذا أعتاد مناداتي … وعناق الأب لابنه .. حيا الله بابن عويض في داره..

المحبة ولقاء الأخوة وشوق السنين تعنونت بها أيام الزيارة .. ولرقصة البرع أو البرعة وقع خاص أثناء احتفال شبابنا بالعم عمر وصحبه الكرام .. ابتسامات الجميع وقفزات الفرح والأهازيج .. وليلة من ليالي السعد عاشتها الأشخرة .. ابن عويض الجعفري وقد زار كل الأماكن التى تمناها .. رأس الحد وخور جراما والعيجة ورأس الجنز والأشخرة .. وكان لنسمات خور جراما حديث داخلي يحكي قصة رجل منذ زمن سافر بعيداً عن موطنه وسكن هناك حيث الغيضة .. مضت سريعاً أيام اللقاء وأعلن موعد العودة .. إلى الديار..

والشيخ عمر بعمامته البيضاء يحمل في جيبه ورقة تمناها أن تكون معه منذ زمن .. المداد الذي عليها.. كتبه أشخاص كثر ، تنتهي أسماؤهم بالجعفري..

رجع المقدم عمر إلى حيث رحومية .. وقت العصرية و الساحة الإسمنتية وأكواب الشاي الأحمر.. للعم عمر قلب يشبه الوطن .. يصب كوب الشاي ثم يأتي بصحن ويضعه فيه يتقاسم الشاي مع ناقته رحومية..

وتمضي الأيام وعبر سماعات الهواتف يكون اللقاء والوعد أن الملتقى القادم على شاطئ محيفيف وضبوت وجفزان والغيضة الصغيرة.. في اليمن السعيد..

عداد الأيام يمضى ينقص من مجمل العمر .. ذكرني برحيل زوجة عمي عمر .. لتكون محطتها الأخيرة صلالة .. هناك استودعها الشيخ عمر منذ سنة .. بعد معاناة مع المرض .. رحمها الله..

كثيراً ما جاءتني منه الرسائل مع الزائرين .. يسأل عنا .. وعبر المكالمات ونحن نكرر الوعد بالزيارة .. وسجل الأيام السعيدة يقربنا من بعض أكثر..

إلا هذا المساء .. تراكمت في هاتفي المكالمات التي لم أرد عليها لانشغالي .. وحين قرأت إحدى الرسائل .. اختصرت لي سر المكالمات .. الشيخ عمر تم تحويله إلى صلالة لطارئ صحي ألمَّ به..

– آلو صلاح ..  – نعم ..

– كيف عمي عمر ؟  – بخير ولله الحمد..

– يمكن أسلم عليه..  – لا يستطيع الكلام حالياً..

– طيب سلم عليه واذكر له اسمي .. – طيب..

– أرجوك كرّر له الاسم ؛ يخبرني صلاح أنه رفع يديه .. ففهمت سلامه علي..

– طيب أخي صلاح طمنّي على أحوال الشيخ عمر في كل وقت..

نصف ساعة ورقم صلاح .. والخبر الذي هز كياني .. ولم أستطع الرد .. إلا بعبارة واحدة (إنا لله وإنا إليه راجعون)..

صعدت السيارة مع مشايخنا صباحاً نحو الجنوب للوداع الأخير.. ليجاور عمي عمر قبر زوجته في زاوية من الزوايا في منطقة الزاوية بصلالة عمان .. لتعيش أعيننا ذرفها ساعات حزينة، ومشهد مبكي بين حنين رحومية وجوار الصمت..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى