أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

أبـنـاء الـورق..

الإعـلامية/ شيـخة المحـروقـية

 

أبـنـاء الـورق..

 

لم تعد تهمّني تلك الأوساخ التي تعلق في عبايتي وأنا في طريقي من موقف السيارة إلى المكتب، ولم يعد يزعجني تشبث بعض الأشواك في ملابسي وتسببها في انسدال الأهداب وتجعّد القماش .. لم أعد أكترث إن علق الغبار في عبايتي أو اتّسخ حجابي بحبر القلم أو انسكب بعض الشاي على ملابسي أو اصطبغ أسفل ثوبي بسواد الأسفلت .. ماذا إن علق كعب حذائي بين فواصل الانترلوك وعطّل حركتي قليلاً ؟ لا.. لا.. لا يزعجني .. فقط سأنزعج عندما تسقط القاعدة البلاستيكية فيظهر المسمار ويحدث ضجيجًا لا أحتمله.

هذه التفاصيل الصغيرة جدًا جدًا جدًا هي العراقيل الفيزيائية الوحيدة التي أجدها في طريقي إلى مكتبي وصرت أُكبرها، لقد أصبحت هذه التفاصيل مصدر فخر بالنسبة لي، وترسم ابتسامة في وجهي إذا ما حدثت لي يومًا وكأنها إثباتٌ على مواجهتي للعقبات حتى أبلغ موقع عملي حيث يتوفّر لي كرسي وطاولة وحاسب آلي، ويعتلي رأسي جهاز تكييف ينسيني حرارة الصيف والرطوبة المُهلكة، ناهيك أنني في كل يوم أعلم بأنني سأحظى بأجرٍ غير منقوصٍ بيسة نهاية الشهر.

هذه التفاصيل باتت مصدر سعادتي لأنها تشعرني ولو قليلاً أنني أتذوق بعض المشقة من أجل كسب لقمة العيش، وأنني لست من “أبناء الورق” كما وصف والدي الموظفين الحكوميين؛ فقد قال لي يومًا قبل أن نتحوّل جزئيًا إلى الحكومة الإلكترونية: أنتم أبناء الورق.. لا تعرفون معنى المعاناة في العمل !.

نعم نحن أبناء ورق، وظائفنا في مجملها تدور حول أوراق تتحرّك جيئة وذهابًا تحمل في طيّاتها كلمات كأن تكون طلبات أو توجيهات أو بيانات ومعلومات أو مقالات وترجمات وآراء وأخبار، لا نعرف معنى أن نقود شاحنة أو معدّة ثقيلة لمسافات تتجاوز آلاف الكيلومترات أفقيًا وعموديًا لإيصال شحنة ما، لا ندرك معنى التعامل مع القمامة بشكل يومي لتنظيف الطرقات والأماكن العامّة فتفوح منّا روائح لا نطيقها وتعلق على ملابسنا بقايا تلك القمامة، لا نعرف العمل على مدار الساعة وفي ساعات متأخرة من الليل أو في لحظات مبكرة من الفجر بينما ينام الآخرون هانئين على أسرّتهم، لا نعمل في حقول نفط وغاز وسط الصحراء حيث يحيط بنا الخطر من كل جانب، لا نحمل الأسلحة ولا نقفز بالمظلات ولا نقود طائرات وبواخر كتدريب عسكري شبه يومي، لا نركب البحر لنصطاد سمكًا ونحن في غير مأمن من أمواجه التي قد تقذف بنا في بقاع لا نعرفها، لا ندرك شعور الانتظار القاتل في الصيف والشتاء أملاً أن يقترب منّا زبونٌ ما ليبتاع من بضاعتنا، لا نمتلك شجاعة أولئك الذين يتعاملون مع المجهول كل يوم فلا يعلمون كيف ومتى سيحصلون على مالٍ يقضون به ديونهم وحوائجهم.

والدي – حفظه الله وأمدّ في عمره – في وصفه ذكّرني بأن أقدّر نعمة أن أكون موظفة حكومية لما فيها من فرصة لتوظيف قدراتي ومهاراتي وتعليمي، كما أنها توفر لي عديد الضمانات كمصدر الرزق والاستقرار، ولكنه في الوقت ذاته أشعرني بالخجل أمام نفسي عندما أشتكي من ضغط العمل أو عدم كفاية الراتب، فوظيفتي وإن كانت مستنزفة أحيانًا على المستوى الذهني إلا أنها غير مجهدة على المستوى البدني والنفسي بقدر الأعمال الأخرى.

قد يكون للكلمات أثرها وقوتها في صناعة الواقع وأحيانًا إعاقته، ولكن بناء النصوص لا يعادل في واقعيته وقيمته إنشاء البنيان مرصوص، وتعديل الكلمات وحذفها وتنسيقها على الورق لا يسهم في تنظيف الطرقات والأزقة، كما أن تبادل المراسلات وإيصالها لا يساوي مثقال ذرة من حجم البضائع المتبادلة والمشحونة التي يسعى سائقو الشاحنات في إيصالها.

إن جلّ ما أخشاه من كوني أحد أبناء الورق هو الابتعاد عن الواقع والتبلّد في المشاعر فلا أعود قادرة على استيعاب معاناة الآخر بينما أقضي يومي في برجٍ حكومي عاجي أقوم بصياغة الكلمات وتنميق العبارات وإرسال المخاطبات؛ فيكون عملي في مجمله أقرب للتنظير منه إلى العمل الحقيقي المثمر.

نعم، الكلمات استطاعت تغيير حيوات، ولطالما ولد التطوير من رحم فكرة غير ملموسة، ولكنني أؤمن أن العمل المحسوس في الميادين هو الحقيقة الدامغة على حدوث التغيير، كلّ ما في الأمر أن الجدل يبقى حول هوية صاحب الفضل في ذلك، فهل هو ابن الورق الذي كتب وعبّر ونظّر ونسّق ونمّق ليؤثّر؟ أم ذاك الذي أخذ الحياة على محمل الجد وأخرج الكلمات من إطارها الرقيق ليجعلها حقيقة صلبة مرئية؟.

في واقع الحال، لا يستغني الطرفان عن بعضهما كلاهما يكمل الآخر، وهذه الحقيقة تُلزم أبناء الورق أن يكونوا أكثر تعاطفًا واحترامًا وتقديرًا للآخر الذي يحتاج لتلك الأوراق في بداية وإتمام ما يصنع على أرض الواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى