بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

فـيـلـم “الجـوكـر !!”..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي

 

فـيـلـم “الجـوكـر !!”..

 

صرحت لكم  في مقال سابق بأنني لست ناقداً فنياً ..

أنا مجرد كاتب يرى ويشاهد ويكتب وجهة نظره فيما يراه ويشاهده والتي قد تختلف تماما مع وجهات نظر الكثيرين..

الإختلاف ظاهرة صحية بشرط أن يحكمها عقل ناضج ، ومنطق سليم .. ويضبطها ضمير يقظ وحي..

*****

المهم هو أن اكتب رأيي .. واستمع لآراء الآخرين هذه أبسط الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان في هذا العصر الذي يفترض أن يكون عصراً متقدماً ومحترماً وشريفاً..

سبق وأن شاهدت فيلم الجوكرjoker   في بداية عرضه في العام 2017 ، ولكن لم أستطع الاستمتاع بالفيلم في قاعة السينما فقد كانت مليئة وصاخبة  ومزعجة وكانت هناك كثير من الضحكات الغبية والحمقاء والتي لم تفهم حقيقة الفيلم حيث أن معظم مرتادي القاعة تلك الليلة كانوا يعتقدون بأن “الجوكر” هو رجل فكاهي وأن الفيلم سيصفعهم بالضحك لذلك تعالت الضحكات في القاعة بكل جهل و غباء وبلادة.

*****

قررت قبل أيام مشاهدته من جديد وقراءته من جديد..

وإليكم قراءتي لهذا الفيلم الفريد..

*****

لقد شاهدت الفيلم بتعمق وتأمل ..  عشت فيه .. تفاعلت في خفاياه .. تدفقت في خلاياه وانجرفت مع تياره..

أبدع المخرج في فيلمه بشكل مذهل..

إبداع في التصوير .. إبداع في الموسيقى التصويرية .. إبداع في الإضاءة .. وإبداع في الصوات المتناغمة مع حركة الأشياء وشخصيات الفيلم..

أبدع الممثل الرئيس في الأداء بشكل ملفت للانتباه ، وكان

من الطبيعي والمنصف جدا حصوله على جائزة الأوسكار..

تعيش ساعة وأربعين دقيقة مع شخص أفرزه المجتمع .. وأنتجته الحياة المعاصرة..

*****

ظلمه المجتمع..  سحقه .. حَوّلَه إلى كومة من اللحم والعظم … جعل منه لا شيء..

جعلوا منه مخلوقاً بائساً يحاول أن يضحك الآخرين وأعماقه تتمزق .. بداية من أمه التي كانت تعامله كنكرة ونهاية بوالده الذي أنكره ولم يعترف به من الأساس..

يحاول هذا المخلوق البائس اجترار الابتسامات من أفواه من حوله .. وقلبه يتألم ويتقطع وينزف..

يضحك دون سبب وبشكل عصبي .. ويفكر في الموت بشكل هوسي!!..

يعاني من أمراض عصبية كلها من إنتاج المجتمع..

غرسها المجتمع الجاحد في قلبه وظل يحملها طوال عمره..

بسبب التهميش والاحتقار والتجاهل وعدم الاحساس بهذه الفئة من البشر..

واعتبارهم مجرد آلات موجودة للعرض..

كائنات خلقت للتندر والفكاهة والسخرية..

مجتمع الأغنياء المخملي وتأثيره الإجرامي في ارتفاع نسبة  الفقر .. ومعاناة طبقات كثيرة في المجتمع..

يحكي الفيلم بشكل غير مباشر كيف تسبب الأغنياء في إذلال الفقراء .. وبؤسهم وعذابهم..

كيف تحول البشر إلى كائنات ممسوخة .. قاسية .. عديمة الاحساس ..

كشف الفيلم .. نوعية البشر وكيفية تطورهم من كائنات بشرية إلى آلات صماء لا تشعر .. ولا ترحم..

أظهر الفيلم بشكل واضح :

عدم  وجود الرحمة..

عدم وجود الشفقة..

عدم وجود العدالة..

فقدان هذه القيم أدّى إلى ظهور هذا النوع من البشر المسحوقين..

إنكار أحاسيس الناس ودهسها .. وعدم منحهم حق الحياة كيفما يحبون..

*****

قرر الفيلم ثلاثة مبادئ خطيرة :

– الحياة لأجل لا شيء..

– الضحك لأجل لا شيء..

– والموت لأجل لا شيء..

واثبتها بطريقة مؤلمة للغاية من خلال حياة إنسان يتمنى أن يموت بطريقة أفضل من حياته..

أبدع المخرج في تصوير أثر تحطيم أحلام الغالبية العظمى من البشر .. وقتل تطلعاتهم .. ودفن أمنياتهم..

كل ذلك قدمها المخرج (تود فيليبس)..

والممثل المبدع الجوكر joker ” خواكين فينكس”..

*****

عرض الفيلم واقع مدينة جوثام كنموذج للمدينة التي تعاني من مختلف الأمراض الاجتماعية والنفسية..

الثراء الفاحش لطبقة قليلة من الناس مقابل الفقر المدقع ، والعوز المؤلم للشريحة الكبرى من السكان..

حيث الصراع الأزلي المرير بين الأثرياء والفقراء..

*****

في النهاية أن الحقيقة الكبرى التي أراد الفيلم أن يوصلها هي أن غالبية البشر هم مجرد “جواكر” في هذه الحياة .. لا قيمة لهم..

إنهم مجرد إضافات زائدة غير مرغوب فيها..

إنهم كائنات زائدة عن الحاجة .. وإن حياتهم مجرد فوضى وسط نظام يعج بالفوضوية ويكتسي بالتفاهة..

 بشر خارج نطاق الاهتمام .. وخارج دائرة المكانة والقيمة..

*****

الجوكر هو رجل يتوق إلى أن يعيش تجربة عاطفية مع إمرأة ولكنه كان عاجزاً لأن أعماقه كانت قد وصلت درجة التحطم والسحق والانكسار..

الجوكر هو الرجل الذي يبحث عن السلام النفسي مع ذاته من خلال انتزاع ضحكات محتضرة من أعماقه .. ولكن كل ما حوله يحاربه ويدمره ويسحقه ويقضي عليه..

*****

يقول لنا الفيلم بأننا ربما نكون كلنا “جواكر ي هذه اللعبة العبثية التي تسمى الحياة .. فهي لعبة يتحكم فيها ويلعبها الأثرياء بكل دناءة وقسوة..

اعتقد بأن الفيلم قدم تحليلاً حقيقياً لواقع الحياة المعاصرة .. وبؤسها .. وسخفها .. وعبثها..

ولا جدواها .. وأطلق صرخة غضب مغلفة بالضحك مصبوغة بالسخرية على مستقبلها القاتم..  الذي يلوح في الأفق..

يشير الفيلم إلى حقيقة خطيرة وهي أن (الجواكر) في ازدياد مضطرد ، كلما أوغلت الحياة في تعاستها وظلمها وسوادها..

ليس شرطاً أن تكون ملطخ الوجه بالأصباغ وتحمل أنفاً بلاستيكياً أحمرا  طويلاً  لتكون “جوكرا “.. أي إنسان عادي ربما يكون مسجلاً في الحياة على أنه مجرد جوكر لا قيمة له..

*****

آرثر فليك (الجوكر) .. موجود بكثرة في مجتمعاتنا ويتكاثر بوتيرة سريعة في كل المجتمعات الظالمة والفاسدة ولكنه بدون أصباغ على وجهه وبدون أنف مطاطي أحمر وملون..

موجود في مستشفى الأمراض العقلية .. يتسكع في الشوارع باحثا عن لقمة عيش .. موجود أمام أبواب المؤسسات والشركات يبحث عن عمل .. موجود في البيت مسرح من عمله .. وموجود في السجن مطلوب من البنك  كلهم (جواكر) ولكن بأشكال وصور مختلفة..

*****

فيلم رائع جداً وعميق جداً ، ومحزن جداً  رغم عنوانه الضاحك وبوستره الفكاهي..

‫2 تعليقات

  1. اسلوب جميل وتحليل رائع من كاتب يمتلك مهارة التوظيف لفن الكتابة.. لأحداث هذا الفلم جعلنا كأننا نشاهده.. تحياتي العاطرة لك استاذي وأخي ابا يزيد.

اترك رداً على حبيب بن مبارك الحبسي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى