أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

حماية العامل هدف اجتماعي وغاية تشريعية .. الجزء (1)..

الدكتور/ سعيد بن عبدالله المعشري

محام ومستـشار قانـونـي

 

حماية العامل هدف اجتماعي وغاية تشريعية .. الجزء (1)..

 

إن العمل للإنسان هو غريزة فطرية وهبها الله له بخصال وصفات ذهنية وجسدية جعلته قادراً على استغلال ما يحيط به من موارد طبيعية، لأجل أنتاج ما يشبع رغباته واحتياجاته المعيشية للاستمرار في الحياة، ولهذا يعد العمل وسيلة لاستغلال قدرة الانسان ومهاراته وكفاءاته في أنتاج ما يحتاجه اليه ويرغب به، وهو مصدراً له من مصادر جلب المال لتحقيق عيشه الكريم، لذلك يعد العمل حاجة من احتياجات المجتمع للإنتاج والاستهلاك لما يوفره من حماية مادية واجتماعية للفرد في رفع مستواه الاجتماعي والاقتصادي.

ولهذا ظل العامل (أو الموظف) المحرك الأساسي للدول في كافة قطاعاتها الاقتصادية، فهو صانع نموها وتطورها، ولئن مثّل العامل (الانسان) أهمية انخراطه للعمل لسد احتياجاته المعيشية إلا أنه يعد الجزء الاساسي في صناعة التحولات الاقتصادية الكبرى للدول والحضارات على مر العصور انتهاءً بعصر الثورة الصناعية الكبرى، ولهذا مرت مكانة العامل بحقب ومتغيرات في سياق تلك التحولات التاريخية بدءا من ظهور ما يعرف بالرق اعتباره المنحنى السيء الخطير على البشرية، الذي جعل من الانسان مستعبداً ومسلوباً في الحرية والكرامة والحط من قدره ليكون آلة تعمل وتسخر متى يشاء السيد أو رب العمل، دون أن يعير للنفس البشرية ما جبلت عليه أن تعيش بكرامة وحرية، ولئن أنتهى هذا الأمر في ظل التطور والحداثة، إلا أن في حقيقة الأمر تبدلت وسائل وطرق ممارسته للبشر، أن يجعل الإنسان مسلوب الحرية والإرادة بطرق ووسائل الاستعباد الحديثة تحت ذريعة القانون ودواعي الاقتصاد بمفهومه الحديث.

فإن اقتضاء توفير الحماية اللازمة للعامل أتى بعد ظهور الاكتشافات التكنولوجية الحديثة التي أدت إلى بناء المصانع الإنتاجية الضخمة فجعلت من توفير الحماية له غاية في تحقيق المصالح الاقتصادية الخاصة والعامة للدول التي تزامن معها ظهور المناشدات العالمية لحقوق الانسان، وذلك بعد أن مرت البشرية بحقب تاريخية مظلمة سادها الظلم والاستغلال،  وقد سجل التاريخ ما صارعه الانسان من أجل العيش بالاستسلام لقدره سواء بالاستعباد أو الاستغلال على مر العصور، ليكون سخرة للأثرياء أو أصحاب النفوذ والسلطة في القبيلة أو الدولة، إذ كان سخرة بمقابل العيش بأدنى الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كاملة، وبه سلبت ارادته في حرية الاختيار بأن يضفي أهميته كأحد محاور الإنتاج الرئيسية لإشباع المجتمع، ولئن نادت الشرائع السماوية باحترام حق الانسان ومنها الدين الإسلامي الحنيف الذي حث على احترام العامل ومنحه كامل حقوقه لقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) إلا أن النفس البشرية ظلت جامحة عن هذا الصراط المستقيم.

إن المكانة والأهمية البالغة التي حظي بها العامل على المستوى العالمي في العصر الحديث بعد أن أرغمت الدول أن توفر له الحماية اللازمة، وتقوية مركزه القانوني والاقتصادي، بعد أن مثّل لها حاجة ملحة وخاصة للدول الأطراف المتصارعة في أكبر حربين طاحنتين مرت على البشرية (الحرب العالمية الأولى والثانية) التي استخدم بها أشرس وأفتك الأسلحة على مر التاريخ، إذ كان كل طرف متصارع فيها يتسابق في ابتكار وتصنيع الاعتا منها وغيرها من العتاد للجيوش المتحاربة، واحتياجات سكانها للمؤون وغيره، لذلك مثل العامل الأهمية والحاجة في تدوير مصانعها، مما استدعى الأمر لديها إلى تحفيز سكانها للعمل بالمصانع من خلال ضمان المقابل المجزي للعيش لهم، ومنحهم المزايا والحقوق التأمينية والمعاشية ولأسرهم في حالة اصابتهم في هذه المصانع أو عجزهم أو وفاتهم نتيجة مخاطر العمل بها.

وبعدها تحول الاهتمام بالعامل من المستوى المحلي والإقليمي إلى المستوى العالمي أبان تأسيـــس عصبــــة الأمــم المتحــــــدة والتي تحولت بعدها إلى منظمة الأمـم المتحدة (United Nations-UN) التي ارتأت لأجل ذلك إلى إنشاء منظمة العمل الدولية (ILO) لتُعنى بهذا الجانب من خلال وضع أسس ومعايير الحد الأدنى لحقوق العمال مواكبة للتطورات الصناعية والتكنولوجية وازدهار الحركة العمالية على المستوى العالمي، التي دعت الحاجة إلى حماية العامل مما ينشأ عن هذه التطورات من مخاطر، وحمايته من أصحاب الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال خاصة في ظل ظهور الشركات متعدية الجنسيات (Multinational Corporations-MC)، وأن بالتزامن مع تطور الأنظمة العمالية على المستوى العالمي، وما فرضه القانون الدولي على الدول والمنظمات الدولية سعت الدول العربية إلى إيجاد منظومة عمل موحدة تتوافق مع اتفاقية العمل الدولية وتلبي خصوصية وطبيعة المجتمع العربي، وعليه اتفقت على تأسيس منظمة العمل العربية ((Arab Labor Organization-ALO في عام 1965م تحت مظلة جامعة الدول العربية، وكانت أول اتفاقية ابرمت عن طريقها هي الاتفاقية رقم 1/1966م بشأن مستويات العمل.

للحديث بقية في الجزء التالي من هذا المقال..

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى