حـمـد الـنـاصـري

وادي السحتن أبجدية تدوين الكتابة العمانية منذ ما قبل الميلاد..

سار الإنسان العُماني منذ القدم مسيرة إنسانية خالدة؛ عُرفت بقيمها المتوارثة من نقطة الصفر ما قبل الألف الأول قبل الميلاد؛ مسيرة حياة البداية يمخر التجارب، ويَعبر أحداثها بعزم؛ شاقاً طريقه، مُتغلغلاً في امتدادها، يفتح كل وصْل مُغلق، ويشدّ بانتصاره الأقفال، يحفظ الحياة بامتداد لا سواد فيه، ويَبتكر نمطاً لحياته فيستمر، ويبحث مُكتشفاً التعايش فيها بسلام آمن.

عَرف الكتابة كما عَرف أنماط الحياة .. وقضى مُزدهراً بأنماطهِ إلى رحلة التدوين والكتابة التي عرفها منذ الأول بداية فجر التاريخ.

وسار بعصر حضارته الضاربة في عُمق التاريخ، ومدّ يديه إلى كل مجال فأزهر وشدّ بعضه البعض منذ الأزل، ووضع لبنات حياته، فسكن وعمّر قراهُ وجباله لبنة لبنة، وتماسك بقوة رجل واحد؛ فامْتدت صِلاته إلى أبْعد مدى، وذهب إلى أقصى الشرق والغرب وشيّد الحضارات مُسالماً، مُؤمناً بأنّ الحياة حق الإنسانية والتعايش حياة مُطمئنة، وأكمل ما بناهُ سَلفه، فكان نِعْم الخلف الأمين .. وأسّس حضارته، وبزغت على أرضه حضارة تقاسمها من الإنسان القديم المجاور لحياته، وكانت أرضه مِعطاءة، فيّاضة بعزم وإرادة؛ فصنع لنفسه قيَماً وتفرّد بها بعاداته وتقاليده وتوارثها، وتَسَمّت أرضه المِعْطاء بـمجان ومزون وعُمان، وبإرثها عبر الأزمان تأسّس بُنيانها بأركانٍ صَلبة كالبُنيان المرصوص، وكان ذلك الإرث القويم كأنّما رَُصَّ بعضُه فوق بعض، وبَنى قيمه وتاريخه ما لم تُبنِه حضارة شغلت عقول الناس وفُزّعت بها البشرية، ولم نستخلص منها غير صراعات وسرقة حضارة غيرها، ولكنّا نجد حضارة عُمان كانت أمة جامعة لخصال الخير والقيم والتقاليد وعادات السّمْت التي قلّما نجد لها شبيهاً في غيرها.

وعلى مرّ الزمن طوّر العُماني نفسه وتوصّل إلى الكتابة فعرفها، ودوّن ما وصل إليه من معَرفة وفق آليات وتطورات مراحل حياته، فكانت رصيد حافل بالمجد والعز؛ فكوّن حضارته، وافتخر بأنّ عُمان حضارة إشعاع ثقافي، ومركز قيم السلام للبشرية جمعاء، وتواترت قِيَم حضارته عبر سنين من حصاد الإنسانية الجامعة.

وقد شهدت له الآثار بـوادي السحتن ووادي بني خروص ووادي بني عوف؛ فشكلت تلك الآثار مُنطلقاً وشواهد تاريخية عن رحلة التدوين؛ فكانت تلك الأبجدية العُمانية مرحلة استكشاف الكتابة في عُمان.

ومن مُدونة المكتبة بـجامعة السلطان قابوس. يأخذنا الحديث عن مرحلة التدوين بوادي السحتن التابع لولاية الرستاق؛ في سلسلة الحجر الغربي، والذي كان طريقاً من البحر إلى مناطق عمان في الداخل، والسلسلتين (الحجر الغربي والحجر الشرقي) مُتصلتان ببعضهما لكأنّهما امتداد لا ينقطع أشْبهَ بالحبل السري عند المولود الجديد يمدّه بنبض الحياة.

وكما أشار الباحث أ. حارث الخروصي في 2017 عبر مدونة المكتبة بجامعة السلطان قابوس؛ أنه نظراً للموقع المُتميز ـ أي وادي السحتن ـ عن بقية المواقع (حيث يعد المكان الوحيد الذي تم التعرف فيه على الخطوط الموجودة به كونه يحوي عدداً لا بأس به من أبجدية خط السحتن؛ الذي قُدّرت نشأته من الألف الثالث إلى الألف الأول قبل الميلاد، وبناءً على مُقارنتها مع الأبجدية الثمودية نظراً لكون أبجدية السحتن تتفق في سِمات كثيرة مع الأبجدية الثمودية؛ فمنهجية المقارنة هذه هي السبيل للتعرف على أبجدية السحتن لتعذّر باقي الوسائل كالتحليل الكربوني للتعامل مع الصخر، والجدير بالذكر أنّ الأبجدية العُمانية هي الأبجدية الأحدث اكتشافاً والمنفردة عن باقي أبجديات شبه الجزيرة العربية؛ لذلك سميت بالأبجدية العُمانية، وكما أنّ أبجدية السحتن -الأبجدية العُمانية- تكونت من ثلاثة وثلاثين حرفاً، وكانت كل كتابات أبجدية السحتن تبدأ من اليسار إلى اليمين ولذلك دلالة على كون هذه الأبجدية أكثر تنظيماً من غيرها مما يُكتب من اليمين إلى اليسار أو العكس، أو من أعلى إلى أسفل أو العكس).

ومما يُثير الفضول عن أبجدية السحتن، كما أثارها الباحث المُجتهد أ. حارث الخروصي .. هل أبجدية السحتن نقطة البداية أم سبقتها مراحل أخرى وأنماط أخرى من مراحل التدوين ؟
قال الخروصي (هذا مما لا يمكن الإجابة عليه بالقطع؛ بحسب المعطيات العلمية الحالية، والإنسان يدرس ويتفكر الكون بأرضه وسمائه، وما لم يتوصل إليه جيل ربما ينير الله به أذهان أجيال أخرى).

وقال الباحث الخروصي أيضاً من خلال مدونة مكتبة جامعة السلطان قابوس : (ولعل مرحلة تدوين المخطوطات واحدة من المراحل الثرية بالإنتاج الفكري العُماني؛ إذ لا يخفى على أحد قيمة المخطوطات العُمانية؛ فالشمس لا تُغَطّى بغربال وصولاً للأوراق التجارية والحبر الحديدي الذي توصلت إليه الدول الأوروبية؛ فقد تم تحقيق المخطوطات لتنشر على هيئة كتب مطبوعة، ومما لا يغفل ذكره هو إنشاء المطبعة السلطانية -أول مطبعة في عُمان- في زمن السلطان برغش عام 1880م، وما أحدثته من نقلة نوعية في مجال طباعة المؤلفات، ثم دخلت على وسط التدوين لغة الصفر والواحد باختراع جهاز الحاسوب الذي أسهم في تحقيق طفرة في النشر والتدوين الرقمي في كافة أرجاء المعمورة بما في ذلك الإنسان العُماني).

وقد أشار البروفيسور جيرزي زادونسكي الأستاذ بالأكاديمية البولندية للعلوم ومُتخصص في المعهد العلمي للدراسات الشرقية في حوار له في صحيفة عُمان عن كتاب “تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان” للإمام نورالدين السالمي، إذ يذكر نموذج ونمط التدوين الذي اتبعه الشيخ السالمي، وهو منهج “الكرونولوجيا” أي تدوين فترات التاريخ العُماني فترةً تلو الأخرى منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وهذا أيضاً يُشير إلى قدم الفترة التي بدأ فيها التدوين التاريخي، حيث إن الشيخ السالمي بدأ في التدوين مع دخول العرب من الأزد إلى عُمان تحت لواء القائد مالك بن فهم.

ويُعد الشيخ نور الدين السالمي من الشخصيات الأكثر تأثيراً عالمياً؛ بحسب قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، كما أُدرج في القائمة ذاتها أبو مسلم البهلاني الذي دوّن شعراً، والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي دوّن في اللغة وأسّس علم العروض، والطبيب والصيدلاني راشد بن عميرة، والفيزيائي والطبيب ابن الذهبي، وإنّ في ذلك دلائل واضحة على قِيمة ما قدّمه ودوّنه الإنسان العُماني.

وفي 11 نوفمبر 2021 تمكّنت السلطنة من إدراج الملّاح العُماني أحمد بن ماجد ضِمْن الشخصيات المؤثرة عالمياً باليونسكو .. وذلك في ذكرى الأحداث التاريخية المهمة والشخصيات المؤثرة عالمياً، بمناسبة مرور 600 عام على ميلاد الملاح العُماني .. ليصبح الشخصية السادسة التي تُدرج في البرنامج الدولي .. جاء هذا الحدث الكبير من خلال مُشاركة السلطنة في أعمال الدورة الحادية والأربعين للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو المنعقد في العاصمة الفرنسية باريس.

الـخـلاصـة ..

نظراً لما لتلك الاحداث التاريخية المُهمة، بشخصياتها المؤثرة عالمياً فإننا نقترح على الجهات المعنية إطلاق أسماء هؤلاء الاعلام المؤثرين بإنتاجاتهم الفكرية والعلمية والتاريخية وعلى مَدارسنا الخاصة والعامة وعلى شوارعنا وأحيائنا السكنية، وعلى فعالياتنا الأدبية وندواتنا الفكرية التاريخية منها والعِلْمية، لتمكين الأجيال القادمة من الاحتفاء بتلك الشخصيات المؤثرة عالمياً، والاعتزاز بها محلياً.