أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

ليس القرآنَ بل أنتَ وهم…

عبدالحميد بن حميد الجامعي

 

ليس القرآنَ بل أنتَ وهم

على منبر مرتفع في مقدمة القاعة التي يظهر أنها كنيسة بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان الجدار مزينا بالصليب، صعد رجلٌ عربي عرَّف نفسه بأنه كريم من العراق (كريم عبد الخالق)، ثم ما فتئ يسرد على الحضور خلفيته الإسلامية، بأنه كان مسلما سابقا لمدة أربعين سنة، وأنه  انتسب للحوزات الشيعية بالعراق، وفيها درس القرآن والحديث والفقه الشيعي، وأنه كان “متعصبا” حتى وصف نفسه بأنه كان “داعشيا” لأنه شارك في كتابة دستور العراق وكان هو من أصر على أن يكون القرآن المصدر الرئيس للتشريع والوحيد!

بعدها دخل -حسب كلمته- في مرحلة إعادة قراءته من جديد للقرآن وآياته خاصة وإيجاد الثغرات فيه والسنة والحديث عامة، والتي استغرقت منه سنتين ونصفَ السنة، فبدأ إلى جانب القرآن بالحديث والفقه الشيعي، ثم انتقل إلى الحديث والفقه السني، وأثناء تلكم الفترة كان على مراسلات مستمرة ومباشرة مع المراجع الشيعية والفقهاء إلا أنه لم يتلقَ إجابات مقنعة على استفساراته الملحة لبعض الآيات القرآنية بين يديه، مما حداه لاكتشاف أن القرآن ليس من الله وأن محمدا ليس بنبي وأن الإسلام كذبة كبرى!

ورغم مقدمة الرجل وصوته المرتجف إلا أنه لم يستطع الإتيان بآية صحيحة للتدليل على زعمه بالصفات الشيطانية لإله المسلمين (ماكر مضل مضر يغوي الخ) تعالى الله علوا كبيرا، وهو يزعم أنه دارس مجيد للقرآن والحديث والفقه وغيره، ورغم ذلك فشل في مقام الاستدلال في ذكر ولو جزء آية على مزاعمه! 

ربما كثير ممن يشاكل صاحبنا هذا من الناس تغرهم آيات من أمثال: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/ 30)، وأمثال: ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (فاطر/٨)، فيثبتون المكر لله في وجهه القبيح -أي المكر- كما يعرفه الناس بينهم، والإضلال القهري والتعسفي، أي دون خِيَرَةٍ من الإنسان ولا اختيار! 

وهذا التفكير السطحي هو منزلق الكثيرين من التَوَّاقين لتسجيل موقف في سجلات الغريب تقربا منه وتزلفا واندفاعا  إليه ولهفة لسبب أو آخر… وإلا فالمجاراة للمجاورة -في آية المكر- من صميم اللغة العربية حيث يأتي التعبيرُ بأمرٍ ما مغاير أو مضاد على شكل لفظ سبقه في السياق لدواع فنية وبلاغية.

مثاله؛ (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ (البقرة/ 194)” فالاعتداء الحقيقي هو الأول (من المعتدين)، أما رد فعل المدافعين فلا يسمى اعتداءً -من حيث الاستقلال- بل مدافعة “ودافعوهم أو وصدوهم”، كما قال: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة/ 251)”،  ولكن استخدامُ الاعتداءِ بديلا لهذه الألفاظ الحقيقية جاء مجاراةً للاعتداء الأول ولهدف بياني، وهو أن لا يجاوزَ ردُ الفعل (صدُ المسلمين لعدوهم) الفعلَ (اعتداءَ عدوهم عليهم)، من ثَمَّ كان قفل الآية تأكيدا لهذا المعنى: “وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة/ 194)”

ويظهر ذلك في سياق آخر مشابه في قوله سبحانه؛ “وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (النمل/ 50))  ”.. فالمكر السيء (مكر البشر) هو الأول.. أما مكر الله فهو جواب للأول وليس من شكله.. واستخدام لفظ مكر هنا جاء بلاغةً للمجاورة، وأنه صَدٌّ ورَدٌّ موازٍ وقاضٍ على الأول.

من ذلك جاء في الآية التالية قوله؛ “فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ    (النمل/ 50)” ولم يقل “عاقبةُ مكرنا” رغم كونه (أي مَكْرِنا) الأقربَ ذِكْرًا من (المكرَيْنِ)، ذلك أن المكر الحقيقي (المكر السيء في القاموس الجمعي الإنساني) في السياق هو الأول وهو مكرهم، أما مكر الله في الآية فليس مكرا حقيقيا وإنما جواب جاء لفظا لمجاراة الأول… وهو  مُفْشِلٌ له ومضاد لسوءه..

وأما آية الإضلال وقوله: ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (فاطر/٨)، ونسبته إلى الله، فهي نسبةُ مرجعيةٍ وتقدير، فالله قَدَّرَ مكاييل الهداية والإضلال ومقاييسها وسننها، وكان له المرجع في ذلك، والإنسان مختارٌ لهذه المقادير، مكتسب لها، مقتضٍ بهذا الاختيار الهدايةَ أو الضلالَ، ويظهر هذا المعنى بين تقديرِ الله الضلالَ واختيار الانسان لأسبابه قبلها جليًّا في عديدٍ من آيات القرآن الكريم من أمثال الآيتين ٢٦ و ٢٧ من سورة البقرة: (وأما الذين كفروا فيقولون مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ”، فكان اختيار الإنسان المقادير والمكاييل الموجبة للضلال (نقض العهد، قطع الصلة، الإفساد في الأرض) أسبقَ من النتيجة، وسببا لها، فالله بعدله جعل الإنسان مخيرا في تحديده الأسباب لاستحقاقه الضلالةَ أو الهدى، فـ” يضل من يشاء” ليست مستقلة، بل هي باختيار الإنسان٫ وإضلال الله هو تقديره العادل لمكاييل الضلال والهداية وأسبابها، ولسياق الهداية مثال مشابه، حيث قوله: “إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (الرعد/٢٧)”، فالهداية هنا سبقه سببٌ لا بد منه وهو من مكاييله ومقاييسه، وهو الإنابة، تماما كما سبق الإضلالَ -في المثال السابق- نقضُ العهد والإفسادُ في الأرض وقطعُ الموصول، وجميعها يقررها الإنسان ويختارها في الحالين، وليس هو مجبرا على شيء منها.

وضمن المفهوم أعلاه يقرأ تعبيرا “فأغرينا بينهم” و “ألقينا بينهم” في قوله: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (المائدة/ ١٤)”، وقوله: ” وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(المائدة/٦٤).. فهو في الآيتين يتكلم عن انحراف بعض من قالوا إنا نصارى عما ذكروا به (أوامر الله وتوصياته)، وإنشاء تشريعات جديدة مغايرة، فمن لطيف البيان استخدام “يصنعون” في هذا المقام للدلالة على صناعة القرار والتشريع، فليس هو إذاً مجرد انحراف عارض لأفراد، بل تشريع منحرف عن تشريع الرب أقرته أعلى سلطة دينية رسمية، وعن انحراف اليهود الذين قالوا: “يد الله مغلولة”، فتعبيرا “أغرينا” و “ألقينا” أي قدرنا تَولُّدَ ذلكَ طبيعةً لأعمالهم ومعتقداتهم التي جبلوا عليها، والتي منها عدم اتباع كتاب الله وتوصياته لبعض النصارى المذكورين، ولليهود عدم تقديس الخالق ” يد الله مغلولة”، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، وبالتالي الاستهانة بتعليماتهم وتوصياتهم، والتعصب من ثم لبعضهم، مما يولد العداوة والبغضاء بينهم طبيعة إلى يوم القيامة لمن قام على هذه الأسس، فتقدير الله؛ أن تكون تلكم النتيجة المكتوبة (العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)، لتلكم الأسباب المختارة من قبل المعتقدين بها ما لم يتخلصوا منها، ولم يأتِ في القرآن أبدا نسبة الله الغواية لنفسه، كما زعم المتكلم، وإنما كانت علةً اعتل بها وزعمها إبليس ليزين لنفسه عزمه على غواية الإنسان، وليس كل زعم أو تهمة تصدق لمجرد زعمها، فهو ادعى على الله أنه أغواه دعوة زور، “قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (الحجر/ ٣٩)”، بينما الحق أن الله ترك لإبليس الاختيار ليستجيب للأمر أم لا، واختار هو عدم الاستجابة ذاتيا خضوعا للكبر المعقود بعنصر النار الذي خُلق منه مقابل عنصر الطين والصلصال الذي خلق منه آدم، فمن أغواه هي نفسه وليس ربه، وهذا التقدير في النتيجة (العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) يخضع له كل منحرفٍ عن أمر ربه، متبعٍ لأسبابه، كان من المسلمين أو النصارى أو اليهود أو غيرهم خضوعا طبيعيا كما مر!.

أما تهكمه على الكعبة وأنها “كشك” يَفْتَرُّ عليه المسلمون، فهو مرة أخرى يدل على مدى جهله للأسف بما يزعم أنه عارف فيه عالم وباحث.

وإلا فإن آية ظاهرة واحدة مثل “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المائدة/ ٩٧) تكفي للرد عليه ورفع لبسه، فهي فيها سبب ذلك ولماذا يطاف بهذا البيت، وما معنى الهدي وحاجة الإنسان له..فقال: “ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم”.

فليست هي الكعبةُ إذاً وليس هو الهديُ ما يُعدُّ الرسالةَ والغايةَ ولكن تذكير الله -فارضِ هذه الأعمال- للإنسان أنه هو أعلم بما فرض، وأن هذه الأمور الدقيقة المفروضة -ظاهرةَ البساطة متناهية الصغر- محاسبٌ الانسانُ عليها ومراقب فيها لكون الله عالما بدقائق الأمور، وبأقرب وأيسر الأعمال، فما بالنا بما فوقها، فهي إذن لبيان قرب  الله من الإنسان في شكل هذه الأعمال البسيطة والتعبيرية وأدائها  كما هو محيط بالشمس والمجرات وتحركها،  لذلك قال؛ “لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج/ ٣٧)”… فأنت ما كانت لك الأداة الدقيقة التي تميز بها خطوات القدم بمجرد تحركها تفصيلا٫ فلن تكون في عجز عن متابعة ما هو أعلى من ذلك، كالاتجاه الذي تذهب له مجموع الخطى، فهذه الأعمال التي يستزهدها الرجل مفروضة ليوقن الناس أن الفارض الذي فرضها -الله سبحانه- يعلم أدق تفاصيل عمل الإنسان، كما يعلم أعظم تفاصيل المجرات والكون، ومن ثم  قال: “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج/ ٣٢)”، وقد أظهرت  الآية ذاتها في آخرها هذا السبب وهذا المعنى بقوله؛ “ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المائدة/ ٩٧)”.

أما كونه داعشيا فقط لأنه تعلق بالقرآن وأصر في كتابة دستور العراق أن يكون القرآن هو مصدر التشريع الرئيس للدولة والوحيد، وكأنه يوحي للحضور أن القرآن هو من يصنع داعش، فهذا من جديد يدينه، ويظهر سطحيةَ ما عليه الرجل، والتشويشَ الذي يعتريه، فالقرآن في آياته لا يصنع داعشيا مطلقا، بل إنسانا مدنيا راقيا وعادلا، فآية ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة/١٩٠)” لا تصنع داعشيا بل أمةً عادلة لا تعتدي غطرسة، ولا تتجاوز الحد ولو في معركة، “وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (النساء/ ٨٦)” لا تصنع داعشيا بل شخصا محترما يبادل التحية بخير منها أولا وإلا فلا أقل من ردها أو مثلها مهما كانت التحية وما كان مصدرها،  “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام/١٠٨)” لا تصنع داعشيا بل فردا راقيا لا يسب معتقد الآخر، ليس خوفا منه، ولكن رحمةً به أن يسب الله ربه بدون علم، ويَكِلُ محاسبته ومحاسبتهم، ومساءلته ومسائلتهم إلى ربه وربهم، ” وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت/ ٤٦)” لا تصنع داعشيا بل شخصا يبحث عن الحقيقة ويقدمها للآخر بإحسان ورقي تعبير، وعند هذا التحاور الحسن ينتهي دوره دون إلزام ولا التزام ولا إكراه ولا إجبار، ” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة/٨)” لا تصنع داعشيا بل مجتمعا يَبِرُّ أفراده بعضُهم ببعض إنسانيا ولو اختلفوا في العقيدة والدين، “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان/٨)ا” لا تصنع داعشيا بل أمةً ترعى أسيرها كما ترعى مسكينها ويتيمها، وهو تعبير يرقى على معاهدة جنيف الدولية لحقوق الأسرى، ويلخص حق الأسير بجعله في سلك المسكين واليتيم، “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ (المائدة/ ٣٢)” لا تصنع داعشيا بل شخصا يَهَبُ الحياةَ للآخر (فيعفوا ويصفح ويتوسط) ويمنع الموت عنه لكونه إنسانا، “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” لا تصنع داعشيا بل تصنع شخصا مسؤولا يحفظ الكنيسة والدير كما يحفظ المسجد،  ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (نساء ٨٥)” لا تصنع داعشيا بل شخصا أمينًا عادلا، ينظر القضية بين يديه كانت أمانة عينية أم مسألة منظورة بموضوعية وعلمية بعيدا عن الايدلوجيا وغيرها، ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ (النساء/ ١٣٥)” لا تصنع داعشيا بل أمةً تشهد بالحق ويتحمل أفرادها المسؤولية ولو كانت عليهم، ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ (لقمان/١٤-١٥)” لا تصنع داعشيا بل شخصا بارا بوالديه ولو كانوا على دينٍ غيرِ الاسلام، بل لو جاهداه وآذياه حتى يرتد عن إسلامه يجب عليه برُهما و وصلُهما وصحبتُهما بمعروف، “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ (المائدة/٥)” لا تصنع داعشيا بل مجتمعا متعايشا متسامحا متداخلا بين أفراده صهرا ونسبا، والآيتان “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون/٦)”، و” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين (البقرة/٢٥٦)” لا تصنعان داعشيا بل شخصا نبيلا، يتصالح مع مجتمعه المتعدد، يهتم بالتعريف عن قناعاته لا بإلزام الناس بها وإكراههم عليها، “بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (آل عمران/ ٧٦)” لا تصنع داعشيا بل رجلا صادقا مع الناس جميعا وفيا لهم ولأماناتهم، ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة/٦٢)” لا تصنع داعشيا بل شخصا مسؤولا يبحث عن إيمانه هو ولا يتسور أو ينشغل بإيمان الآخرين، “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة/٤٨)” لا تصنع داعشيا بل شخصا لا يهاب الاختلاف ويعترف به ويتكيف معه، يتسابق هو والمختلف معه في لفعل الخيرات بما بين أيديهم، ويتنافسان في سبيل الله وفي سبيل الإنسان، فالقرآن وآياته لا تصنع داعشيا، بل هي ضد هذا التيار وما يدعو إليه ويقوم به، ما يصنع داعشَ هو المخابراتُ الأجنبية، مستغلةً بُعْدَ الناس عن قرآنهم وعن كتاب ربهم، وهيمنةَ بعض التراث الاسلامي والروايات والشاذ من الآراء على العقل الجمعي للتجمعات (مذاهب واتجاهات) لتعيد فكر الخوارج من جديد في شكل داعش والحركات الراديكالية الأخرى، طلبا لمحاربة الاسلام ذاته الذي يشكل تهديدا وجوديا عليها وعلى أنظمتها العالمية الظالمة للإنسان، والناشرة للفقر والبؤس في العالم أجمع. 

إن أغلب المسلمين لا يمثلون قرآنهم اليوم، بل يعكسون مراجعهم  وإرثهم الفكري البشري، وما انتقل إليهم عن آبائهم وأجدادهم، مما يُوَلِّدُ ما نرى من تعصب للمذهب ومراجعه الدينية علماء وفقهاء فوق التعصب لله وكتابه وسنة نبيه المتماهية معه، وهو ما يخلق أطيافا مختلفة ومجموعاتٍ متعددةً يعتمد اختلالها الفكري والإنساني والمنطقي على مدى انزياحها عن القرآن وانحرافها عنه، ومدى تعصبها لرجالاتها وآثارهم فقها وتفسيرا وفتاوى وآراء وتقديمه على “قال الله وقال رسوله غير المصادم له”، ومن هنا تنشأ الحركات الراديكالية كداعش اليوم والخوارج من قبل، حيث يكون شدةُ انحرافها عن القرآن والتصاقها بالرجال وفتاويهم أكبرَ ما يكون، ويتعاملون مع توجيهات القرآن المناقضة لذلكم الإرث الفكري والفقهي باستخدام أدواتٍ مختلفة كالتأويل أو زعم الناسخ والمنسوخ، في جميع الآيات حُكميةً وغيرَ حكمية، من رد التحية وإكرام الأسير إلى حرية الاعتقاد (الحرية الدينية) وحفظ النفس البشرية، وهذا الانزياح عن كتاب الله والتعصب لآراء المراجع لا يقتصر على المسلمين بل يتناول البشر في أديانهم المختلفة لا سيما السماويةَ منها، وتتشكل هناك المجموعات المتعصبةُ كما تشكلت هنا تماما، وهذا متوقع، فالتعصب وترك كتب الله كانت قرآنا أو توراة أو إنجيلا أو ما انبثق عنها واقتبس منها أو قاطعها من كتب حكماء الديانات الأخرى ومراجعها هو مطلب حثيث لظاهرة الشيطان، الذي هو عدو للإنسان بأشكاله وتجمعاته المختلفة، وليس لديه هدف واحد أو تجمع واحد فقط، بل هدفه الإنسان في مختلف تجمعاته ودياناته، مصداقا لقوله سبحانه في القرآن: “إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا”. 

أخيرا ليس مضطرا من يعتنق دينا أو متجها جديدا أن يكذب على دينه الأول حتى يُسعد به الثاني وجموعه، كما فعلها صاحبنا هنا بطريقة رجعية، فيها من الكذب أو التدليس أو الفهم الخاطئ ما رأينا، يكفيه أن يظهر سبب انجذابه للدين أو المتجه الجديد وما يتأمل منه، مهما كان الدين المرتد عنه أو المنتقل إليه، نزولا مع التوجيه القرآني للمسلمين، وربما لنصوص مشابهة في التوجيه في غيرها من الكتب لا سيما السماوية وما قد تتقاطع به مع القرآن الكريم في هذا الصدد.

هدى الله الجميع..

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى