أصداء وآراء

خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام..

الكاتب/ طلال بن حمد الربيعي

talal.al5595@gmail.com

 

 

خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام..

 

تذكرت في لحظات معينه ونحن نعايش خطة التوازن المالي للدولة، والقرارات الصادرة عنها، وما تبعها من ردود أفعال في منصات التواصل الاجتماعي .. عبارة لقائد الثورة البلشفية فلادمير لينين، والتي أصبحت عنواناً لكتابه فيما بعد : خطوه إلى الأمام خطوتان إلى الوراء .. طبعاً لينين كان يقيّم الوضع في روسيا بعد التغييرات التي حدثت عقب اضطرابات ١٩٠٣م .. وأن النتائج المرجوة لم تكن سريعة لأسباب اعترت التطبيق.

كلنا يعلم أن الدول الخليجية ومنذ بدايات التأسيس في العصر الحديث، ومع اكتشاف النفط قبل أكثر من خمسين عاماً، انتهجت الاقتصاد الريعي والذي يقوم على  اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع (الدخل)، وهذا المصدر غالباً ما يكون مصدراً طبيعياً ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية، بحيث تستحوذ السلطة أو الدولة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه، والمصدر التي اعتمدت عليه دول الخليج  هو الذهب الأسود، ربما كانت البدايات في حاجة إلى هذا النوع من  الاقتصاد، حيث إن دول الخليج كانت تفتقر للبنية الأساسية والخدمات الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى أن عدد سكانها قليل، ومع تدفق النفط وزياده أسعاره إنعكس ذلك بشكل واضح على دخل الفرد، وبالتالي على رفاهية شعوب هذه الدول وتحولهم الى مجتمعات إستهلاكية مستوردة، وفي غمرة هذه الطفرة تم إهمال الزراعة و الصناعات التحويلية الأخرى، وأصبحت الأموال المتراكمة من عوائد النفط تذهب إلى البنوك الغربية، وشركات الأسلحة، والصحافة الصفراء، والأموال الأخرى إلى البهرجة والترف وثقافه الإستهلاك، أما ما تبقّى فتم توزيعه كرواتب للموظفين الحكوميّين، دون رؤية مستقبلية تأخذ في عين الاعتبار متطلبات التنمية المستدامة، والتنويع الاقتصادي، ومخاطر الاعتماد على مصدر واحد للدخل، ومستقبل الأجيال القادمة.

ومع مرور الوقت، وزيادة عدد السكان الذي أدى بطبيعة الحال إلى زيادة الأعباء المالية، وتعرض النفط الى تقلبات العرض والطلب، أصبحت هذه الدول تعاني من عجوزات كبيرة في موازناتها بين حين وآخر، ومرت بأزمات صعبة استطاعت الخروج منها بحلول مؤقتة، أصبحت تتراكم مع مرور الزمن إلّا انها لم تستطع الإنفلات من الاقتصاد الريعي، وذلك بسبب عدم جديتها في بناء اقتصاد حقيقي قائم على التنوع والاستمرارية .. حيث دائما ما تعالج إشكالية إنخفاض أسعار النفط وارتفاع العجوزات في هذه الموازنات، بما أصبح يعرف بسياسة ترشيد الإنفاق، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الطبقة المتوسطة التي غالبيتها من الموظفين الحكوميّين والتكنو قراط وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتنعكس هذه السياسة في تراجع الخدمات المقدمة من الدولة، مع تخفيض في الرواتب، ورفع الدعم عن الحاجات  الأساسية، علاوة على فرض الضرائب بمختلف أنواعها.

في الحقيقة هذا ليس حلا حقيقيا للوضع الاقتصادي، وهو لا محالة سيوثر على الطبقة الوسطى، وسيؤدي إلى تآكلها تدريجيا، وسيؤدي إلى زيادة في معدلات البطالة، مما ينبيء بكوارث اجتماعية وسياسية لا يمكن معالجتها في المدى القصير، وقد يُعَرِّض المنظومة الاجتماعية للإنهيار التدريجي.

ونحن هنا لا نتحدث من باب التشاؤم، فهناك دراسات كثيرة حذرت من أن الوضع الاقتصادي إذا استمر بهذه الطريقة فإنه لن يصمد لفترة طويلة، وأن هذه الرفاهية لن تبقى كما هيا، وستجري الرياح يوما بما لا تشتهي سفن هذه الدول.

أكثر من خمسه عقود مرت على هذه الدول وأوضاعها وآمالها، وأحلام مواطنيها معلقة على أسعار النفط، ومازلنا ندور في نفس الحلقة، لأننا بكل صراحه لا نملك إرادة قوية للتغيير .. وهذه الإرادة من وجهة نظري تبدأ بتحديد الأزمة أو المشكلة وكيفية التعامل معها، من خلال تحليل ومراجعة وتقييم الأسباب والتبعات، والوقوف على الأخطاء، وهذا لا يتم إلا من خلال  ثلاثة أشياء مهمة جدا وهي : الرقابة والمحاسبة والشفافية .. ففي الغرب على سبيل المثال أدت الأزمة المالية عام ٢٠٠٨م إلى مساءلة معمقة للمسئولين تمخضت في تغيير جذري في السياسات وحتى إلى استبدال حكومات. في أمريكا على سبيل المثال تم اتخاذ حزمة من القرارات لإعادة لإعادة رسم وإصلاح القطاع المصرفي، كذلك الحال في دول الإتحاد الأوروبي واليابان، أضف إلى هذا محاكمة وسَجْنِ بعض ممّـن تورطوا في فضائح الفساد الكبرى مثل حادثة مادوف الشهيرة.

مما لا شك فيه أن السلطنة والدول الخليجية الأخرى نجحت إلى حد كبير في بسط الأمن والأمان، وتقليل مخاطر الإرهاب من خلال القبضة الأمنية الصارمة، وإنشاء أذرع أمنية واستخباراتية ذات احترافية في العمل، وهذا واضح وجلي من خلال الأرقام والإحصائيات، في المقابل أتمنى أن يكون لدينا أذرع رقابية صارمة وبذات الإحترافية، تضرب بيد من حديد لكل من يحاول إستغلال المال العام أو العمل لمصالحه الشخصية، وأن يتم فتح ملفات الفساد على مصراعيها، وبَدْءِ مرحلة المحاسبة بحزم وشفافية، طبعا نحن هنا لا نحاكم أو نحاسب مرحلة تأسيسية سابقة كما يعتقد البعض، ودائما مرحلة التأسيس تمر بتجارب ومنعطفات كبيرة؛ وإنما نحاسب من سوّلت له نفسه الإعتداء على المال العام، ونحن بذلك نحاول إعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب، وبين الحكومة وأصحاب رؤوس الأموال، الذين حان الوقت لإيجاد آليات واضحة لمساهمتهم في الاقتصاد الوطني، سواء من الناحية الاجتماعية أو حتى المساهمة المباشرة في دعم مشاريع حيوية تخدم المجتمع.

عند تحقيق ذلك نستطيع مقاربة الاختلافات حول التعامل مع الأزمة لنخرج بحلول إجرائية حقيقية وليست ترقيعية، محاولين بقدر الإمكان عدم تحميل المواطن البسيط مزيدا من الأعباء المالية.

نحن نعلم أن الحكومة تسعى جاهده في محاولة التخفيف من الدين المتراكم ومن عجز الموازنة؛ لكنها مخطئة إن اعتقدت أنها تستطيع فعل ذلك من دون إقناع المواطن، بأن هناك خطة للخروج من عنق الزجاجة.

أعتقد أننا نحتاج إلى خطة وطنية تعترف، أولاً : بضرورة البَدْء بالابتعاد التدريجي عن هذا النظام الريعي، والتخلص من اعتمادنا على النفط الذي كان السبب الرئيسي  في ترسيخ النظام الريعي، ثانياً : إنشاء جهاز محاسبة ومتابعة صارم تكون لديه صلاحيات ويكون تابعاً لأعلى رأس الهرم في الدولة، ثالثا : ضرورة وجود جهاز استخبارات اقتصادي وطني قوي؛ رابعاً : تحسين وضع الطبقات الفقيرة والمتوسطة، خامساً : تخفيض البطالة وتحويل فرص العمل نحو القطاع الخاص، ولن يستطيع أي بلد أو حكومة منفردة القيام بذلك من دون توافق مجتمعي على الخطوات والأسس العامة، لخطط التحول الاقتصادي التي من شأنها أن تبعدنا عن تقلبات أسعار النفط، والعجوزات المالية، وتجعلنا على أرض صلبة، واقتصاد متين قوي.

لن نستطيع الإستمرار في معالجة المشكلة عن طريق خلق مشكلات إجتماعية أخرى؛ كفرض الضرائب، وتخفيض الرواتب، ورفع الدعم الكلي أو الجزئي عن شريحة الطبقة المتوسطة، واللجوء إلى الإستدانة والقروض التي تتراكم فوائدها على كاهل الدولة، والتي لا محالة ستشكل عبئاً اقتصادياً وسياسياً سنضطر لدفع ثمنه عاجلاً أم آجلاً .. إن لم نكن نحن فأبناؤنا في المستقبل المنظور.

بعد أكثر من خمسين عاماً من عمر النهضة، حان الوقت للعمل بشكل جاد على إيجاد وخلق حلول إقتصادية عملية مناسبة لا تستهدف إضعاف طبقة على حساب أخرى، وإنما تنمي وترفع من حجم مساهمة جميع طبقات وفئات المجتمع، كل حسب إمكانياته، مع إدراك أن هناك صعوبات كثيرة وكبيرة ستقف عائقاً أمامنا، لكن خيار استمرار الوضع الراهن أكثر إيلاماً، وقد تكون التحولات التي ستنتج عن هذا التحول خطوة إلى الوراء قد يراها البعض ولكن هي ضرورة من اجل خطوتين إلى الأمام.

وفي الختام نقول : مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى