
سلسلة التطوير المؤسسي الذكي (5).. كيف تبني مؤسسة لا تهتز؟ الابتكار الرقمي سرّ الثبات والتوسع
المهندس/ عامر إبراهيم
مستشار تطوير وريادة الأعمال والتحول الرقمي
هل تعلم أن 52% من المؤسسات التي لم تستثمر في الابتكار الرقمي قبل عام 2020 واجهت تعثرات حادة خلال الجائحة؟ سواء كنت تدير شركة ناشئة أو مؤسسة راسخة، فإن قدرتك على التكيف مع التغيرات تحدد مصيرك. في هذا المقال، لن نعرض لك فقط أفكارًا، بل أدوات مجرّبة وقصصًا واقعية يمكن أن تُحدث فرقًا حقيقيًا في عملك.
هذا المقال هو الجزء الخامس من سلسلة “التطوير المؤسسي الذكي”، التي تهدف إلى تقديم أدوات واستراتيجيات حديثة تساعد المؤسسات ورواد الأعمال في سلطنة عُمان على النمو والتحول بذكاء.
كما قال جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله – : “إن بناء قدرات الإنسان العُماني وتمكينه من استشراف المستقبل أمر حتمي”. من هذا المنطلق، يتضح أن تطوير الابتكار الرقمي أصبح ركيزة أساسية لضمان قدرة المؤسسات على الاستمرار والتكيف في بيئة عالمية متقلبة.
في هذا المقال، سنستعرض أهم الاستراتيجيات الرقمية الحديثة لتعزيز مرونة المؤسسات، مدعومة بأمثلة من سلطنة عُمان والعالم، وصولًا إلى توصيات عملية لأصحاب المشاريع ورواد الأعمال :
1. البيانات التنبؤية واتخاذ القرارات الاستباقية..
تحليلات البيانات الذكية تمكّن المؤسسات من التنبؤ بالطلب وتوقع الأعطال وتعديل العمليات قبل حدوث الأزمات. العديد من الشركات في عُمان بدأت استخدام هذه الأدوات لخفض التكاليف وتحسين الكفاءة، كما هو الحال في قطاع الطاقة والنقل. فعلى سبيل المثال، طبّقت شركة “تنمية طاقة” العمانية نظم تحليل البيانات التنبؤية لمراقبة استهلاك الطاقة وتحسين الصيانة الاستباقية، مما ساعدها في خفض الفاقد وتحسين الكفاءة التشغيلية. وتشير دراسة لـ IBM (2023) إلى أن أكثر من 60% من المؤسسات التي اعتمدت تحليلات تنبؤية حسّنت قراراتها التشغيلية في أول 6 أشهر.
2. الابتكار المفتوح وتسريع الحلول الإبداعية..
فتح المجال أمام الشراكات والأفكار من خارج المؤسسة يعزز من مرونتها. في السلطنة، تقدم مجمعات الابتكار مثل مجمع الابتكار مسقط نموذجًا ملهمًا لتبادل الخبرات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع الأكاديمي. وعلى المستوى العالمي، تُعد تجربة شركة Lego في اعتماد “الابتكار المفتوح” من خلال منصة Lego Ideas مثالًا ناجحًا؛ حيث طوّرت أكثر من 20 منتجًا جديدًا بناءً على اقتراحات المستخدمين، ما أدى إلى زيادة كبيرة في مبيعاتها. وتؤكد Harvard Business Review (2024) أن 70% من الشركات التي اعتمدت الابتكار المفتوح تمكنت من إطلاق منتجات جديدة أسرع من منافسيها، مثل شركة Lego التي أعادت تصميم عدة منتجات بناءً على أفكار العملاء، ما زاد مبيعاتها بنسبة 25%.
3. الحوكمة الرقمية وإدارة المخاطر..
وجود سياسات واضحة لإدارة البيانات، والامتثال للأنظمة، وحماية الأمن السيبراني، يضمن توسع المؤسسة دون المساس بموثوقيتها. وقد بدأت مؤسسات حكومية وخاصة في عمان اعتماد هذه المعايير لتحسين أدائها الرقمي، مثل ما قامت به بلدية مسقط من تحويل خدماتها البلدية إلى منصة إلكترونية ذكية، مما ساهم في تقليل الزمن اللازم لتقديم الخدمة وتحسين جودة التعامل مع المواطن.
4. البنية التحتية السحابية والمرونة التشغيلية..
اعتماد الخدمات السحابية والعمل عن بعد أتاح للعديد من المؤسسات في عمان الاستمرارية حتى في أوقات الأزمات. توفر هذه التقنية مرونة تشغيلية، وسرعة في التوسع، وتخفيض في التكاليف. على سبيل المثال، شركة كريم الإقليمية اعتمدت البنية السحابية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحسين توزيع السائقين، مما ساعد في تقليل وقت الانتظار بنسبة 40%. كذلك، استطاعت Zoom العالمية أن تتوسع بسرعة فائقة خلال الجائحة بفضل اعتمادها الكامل على البنية التحتية السحابية. وفق تقرير Oracle (2023)، المؤسسات التي تعتمد البنية التحتية السحابية تقلل من نفقاتها التشغيلية بنسبة تصل إلى 35%. ومن الأمثلة الملهمة: شركة Zoom التي كانت تعتمد بالكامل على البنية السحابية، مما سهّل توسعها العالمي خلال الجائحة.
5. تمكين المهارات الرقمية وبناء ثقافة التعلم المستمر..
المهارات الرقمية وثقافة الابتكار داخل الفريق هي الضمان الحقيقي لاستدامة أي تحول رقمي. المؤسسات التي تستثمر في تدريب موظفيها وتمنحهم مساحة للتجربة والإبداع تصبح أكثر قدرة على مواجهة التغيرات والتطور. كمثال محلي، نفذت هيئة تقنية المعلومات العُمانية بالتعاون مع جامعة السلطان قابوس عدة برامج ومبادرات رقمية لبناء الكفاءات الوطنية في مجال الذكاء الاصطناعي. وعلى الصعيد العالمي، تُعد تجربة Unilever رائدة، حيث أطلقت مركز “People Data Centre” الذي يستخدم تحليلات رقمية لفهم سلوك العملاء وتوجيه المنتجات. وفق استطلاع LinkedIn (2024)، قال 94% من المديرين أن الاستثمار في المهارات الرقمية ساهم في زيادة إنتاجية المؤسسة ونموها.
توصيات استراتيجية لتعزيز المرونة الرقمية :
* ابدأ بتحليل بيانات عملك، حتى لو بشكل بسيط، لتكوين رؤية واضحة تدعم قراراتك.
* تفاعل مع منظومات الابتكار المحلية وشارك في الحاضنات والمسابقات.
* استخدم أدوات العمل السحابي والبريد الإلكتروني الآمن كخطوة أولى نحو بنية تحتية أكثر مرونة.
* ضع سياسات خصوصية وأمان للبيانات منذ البداية، حتى لو كان فريقك صغير.
* استثمر بجدية في مهاراتك ومهارات فريقك : التعلم المستمر هو الحصن الأول للمؤسسة المرنة.
اختبار جاهزية الابتكار الرقمي – 10 أسئلة سريعة (قيّم كل سؤال من 1 = ضعيف إلى 5 = ممتاز) :
1. ما مدى قدرتنا على جمع بيانات العملاء وتشغيل لوحات مؤشرات لحظية لقراراتنا اليومية؟
2. هل نستطيع نقل أي خدمة أو نظام جديد إلى بيئة سحابية خلال أسبوعين أو أقل؟
3. ما مدى وضوح سياسة حوكمة البيانات (الخصوصية، الأمان، الامتثال) لدى جميع الموظفين؟
4. هل نمتلك آلية ابتكار مفتوح تستقبل أفكارًا من العملاء أو الشركاء وتُختبر خلال ربع سنة؟
5. ما نسبة ميزانية التدريب المخصَّصة سنويًا لتطوير المهارات الرقمية داخل الفريق؟
6. كم مرة نستخدم تحليلات تنبؤية لتوقّع الطلب أو الأعطال قبل وقوعها؟
7. ما مدى تكامل أنظمة الـ CRM و ERP وغيرها عبر واجهات API دون تدخل يدوي؟
8. هل يوجد فريق/مسؤول أمن سيبراني يرصد الثغرات ويختبر الاختراق دوريًا؟
9. ما مدى سرعة تحويل رؤية/مقترح رقمي إلى نموذج أولي (Prototype) قابل للتجربة؟
10. هل لدى المؤسسة مؤشر أداء واضح لرضا المستخدم الرقمي (NPS أو مشابه) يُراجع شهريًا؟
النتيجة السريعة :
* مجموع 40+ = جاهزية قوية – ركّز على التحسين المستمر.
* مجموع 25-39 = جاهزية متوسطة – حدّد 3 نقاط أولوية للتحسين.
* أقل من 25 = فجوة ابتكار واضحة – ضع خطة تحوّل رقمي عاجلة.
الخاتمة :
بناء مؤسسة ذكية ومرنة رقميًا هو رحلة مستمرة. المؤسسات التي تدمج التقنية بالعقول، وتوازن بين الجرأة والحكمة، ستكون الأقدر على النمو والتأثير. والفرصة أمامنا في عمان تاريخية: لنصنع من الابتكار قصتنا القادمة.
المقال القادم سيكون محطة جديدة في هذه السلسلة، نتابع فيه أدوات التحسين المؤسسي الرقمي من زاوية جديدة وعملية. سنسلّط الضوء فيه على العلاقة بين التحول الرقمي وتجربة العميل، وكيف يمكن للمؤسسات أن تبني علاقة مستدامة مع عملائها من خلال تقنيات ذكية وخدمة متطورة.
هل تجربة العميل في مؤسستك تواكب توقعات العصر؟ هذا ما سنكشفه في المقال القادم بإذن الله.
تذكر .. “الابتكار الرقمي اليوم ليس رفاهية، بل صمَّام أمان يضمن للمؤسسات القدرة على التكيّف والازدهار”.